للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدين، وعرض بليغ لقواعد التقى والصلاح لم يروا له نظيراً بعد أيام أوغسطين. واختفت الفلسفة منذ أيامه، بالرغم من ظهور ابن رشد، في أقصى أركان العالم الإسلامي، وضعفت البحوث العلمية، وأصبح الحديث والقرآن دون غيرهما من العلوم موضع اهتماماً العقول الإسلامية وشغلها الشاغل (١).

وكان اعتناق الغزالي لمذهب التصوف نصراً باهراً للصوفية، فأخذ أهل السنة من بعده بالتصوف حتى طغت عقائد المتصوفة وقتاً ما على قواعد الدين. نعم إن علماء الدين والشريعة الإسلامية كانوا لا يزالون من الوجهة الرسمية أصحاب الكلمة العليا في علم الدين والشريعة، لكن ميدان التفكير الديني استسلم لمشايخ الطرق وأولياء الله الصالحين. ومن عجب أن ظهور طائفة الرهبان الفرنسيس في المسيحية قد عاصره نوع جديد من الزهد والنسك في العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الميلادي، فقد أخذ الزهاد المتصوفة يهجرون الحياة العائلية يحيون حياة الأخوة الدينية بزعامة شيخ لهم ويسمون أنفسهم الفقراء أو الدراويش، وثانيهما لفظ فارسي معناه السائل. وكان هؤلاء يسعون بطرق مختلفة إلى التسامي بأرواحهم ليرتفعوا بها إلى الفناء في روح الله فيستطيعوا بذلك الإتيان بعجائب الأعمال: فمنهم من كانت وسيلته إلى هذا التسامي هي الصلاة والتأمل، ومنهم من كانت سبيله إليها النشوة التي تعقب الأذكار العنيفة.

وقد صيغت نظريات الصوفية في المائة والخمسين من الكتب التي ألفها محي الدين بن العربي (١١٦٥ - ١٢٤٠) -وهو مسلم أندلسي أقام في دمشق. ومن أقواله أن العالم لم يخلق قط لأنه هو المظهر الخارجي لما هو في حقيقته الداخلية الله نفسه، والجحيم مقام مؤقت، لأن الناس كلهم سينجون آخر الأمر، والحب يخطئ إذا كان هو حب المظهر الجسمي الزائل، لأن الله وهو الذي يظهر في صورة


(١) لا شك أن في هذا التعميم كثيراً من المبالغة. (المترجم)