للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لا يموت بموتهم. والتفكير هو أسمى وظائف الإنسان، وبالتفكير وحده، لا بالنشوة الصوفية، يصل الإنسان إلى معرفة العقل الفعال وهو الله. ولكن التفكير مغامرة خطيرة، إلا إذا كانت في صمت. والرجل العاقل يعيش في عزلة هادئة، بعيداً عن الأطباء، ورجال القانون، والناس أجمعين؛ أو لعل عدداً قليلاً من الفلاسفة يؤلفون فيما بينهم جماعة تسعى مجتمعة لطلب المعرفة في رفق وتسامح بعيدة عن صخب الشعب وجنونه (٩٥).

وواصل أبو بكر بن طفيل (أبو ياسر Adupacer عند الأوربيين) (١١٠٧؟ -١١٨٥) أفكار ابن باجة: وكاد يحقق مثله العليا. وكان هو الآخر عالماً، وشاعراً، وطبيباً، وفيلسوفاً؛ وكان وزيراً وطبيباً للخليفة أبي يعقوب يوسف في مدينة مراكش عاصمة الموحدين. وقد استطاع أن يقضي معظم ساعات يقظته في المكتبة الملكية ووجد بين الدرس وشئون الحكم متسعاً من الوقت كتب فيه، من بين الكتب العميقة، أعظم قصة فلسفية في أدب العصور الوسطى. وقد أخذ ابن طفيل عنوان قصته من ابن سينا ولعلها هي التي أوحت إلى دفوا (Defoe) بقصة ربنسن كروزو Robinson Crusse (بعد أن ترجمها أكلي Ockley إلى الإنجليزية في عام ١٧٠٨).

وخلاصة القصة أن حي بن يقظان، الذي سميت القصة باسمه ألقى وهو طفل في جزيرة خالية من السكان، فأرضعته عنزة؛ وشب الفتى متوقد الذكاء عظيم المهارة، فكان يصنع حذاءيه وأثوابه بنفسه من جلود الحيوان، ودرس النجوم، وسرَّح الحيوانات حية وميتة، حتى وصل في هذا النوع من المعرفة إلى أرقى ما وصل إليه أعظم المشتغلين بعلم الأحياء (٩٦). ثم انتقل من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة وعلوم الدين؛ وأثبت لنفسه وجود خالق قادر على كل شيء؛ ثم عاش معيشة الزهاد، وحرم على نفسه أكل اللحم، واستطاع أن يتصل اتصالاً روحياً