بعضها ببعض: ذلك أن الأسس الجوهرية في الحضارة لا تضيع أبداً مهما حل بها من زلازل وأوبئة، وجدب، وهجرات مدمرة، وحروب مخربة مهلكة. بل إن ثقافات فنية تمد أيديها إلى هذه الأسس فتنتشلها من هذا اللهب، وتمد حياتها بالتقليد والمحاكاة، ثم بالخلق والابتكار، حتى ينبعث في الشعب الناشئ شباب جديد وروح وثابة جديدة. وكما أن الناس أعضاء في مجتمع، والأجيال لحظات في تسلسل الأسر، فإن الحضارات وحدات في كل أكبر منها وأعظم اسمه التاريخ، فهي مراحل في حياة الإنسانية. إن الحضارة متعددة الأصول، وهي نتاج تعاوني لكثير من الشعوب، والطبقات، والأديان، وليس في وسع من يدرس تاريخها أن يتعصب لشعب أو لعقيدة. ومن أجل هذا فإن العالِم وإن كان مواطناً في بلدهِ يحبه لما يربطه من صلات وثيقة، يحس أيضاً بأنه مواطن في بلد العقل، الذي لا يعرف عداوات ولا حدوداً. وهو لا يكاد ويكون خليقاً باسمه إذا ما حمل معه في أثناء دراسته أهواء سياسية، أو نزعات عنصرية، أو عداوات دينية، وهو يقدم لكل شعب حمل مشعل الحضارة وأغنى تراثها شكره وإجلاله.