فلما فعلوا هذا عاد اليهود الربانيون إلى القول بأخذ عبارات التلمود بنصها، وقالوا إن ما ورد في الكتاب المقدس من عبارات أمثال "يد الله" وجلوس الله. يجب أن تؤخذ بمعناها الحقيقي، بل إن بعضهم قد تغالى في هذا فقدر بالدقة مقاييس جسم الله، وطول أطرافه، ولحيته (٦). ونشأت فئة قليلة من اليهود حرة التفكير منها صبي البلخي Chivi al-Balchi كانت تنادي بأن أسفار موسى الخمسة نفسها ليست شريعة واجبة الطاعة (٧). في هذه البيئة التي تمتاز بالرخاء الاقتصادي، والحرية الدينية، والجدل العنيف أنجبت اليهودية أول فيلسوف يهودي ذائع الصيت في العصور الوسطى.
ولد سعديا بن يوسف في قرية من قرى الفيوم في عام ٨٩٢. وشب في مصر وتزوج فيها ثم هاجر إلى فلسطين في عام ٩١٥، ثم هاجر بعدئذ إلى بابل. وما من شك في أنه كان طالباً مجداً ومعلماً قديراً، لأنه عين وهو شاب في السادسة والثلاثين من عمره جاؤنا أي مديراً لكلية سوراً. وشاهد ما أدخله القراءون والمتشككة من بدع في الدين اليهودي القديم، فآلى على نفسه أن يفعل لهذا الدين ما فعله المتكلمون في الدين الإسلامي-فيبين أن هذا الدين القديم يتفق كل الاتفاق مع العق والتاريخ. وأخرج سعديا في حياته القصيرة التي لم تتجاوز خمسين عاماً مقداراً ضخماً من المؤلفات-معظمها-لا يماثلها في سجل التفكير اليهودي في العصور الوسطى إلى مؤلفات ابن ميمون. ومن هذه المؤلفات "الأجرون" وهو معجم آرامي للغة العبرية يعد أساساً للفلسفة العبرية؛ ومنها "كتاب اللغة" وهو أقدم ما عرف من كتب في نحو اللغة العبرية. وقد ظلت ترجمته العربية للعهد القديم إلى يومنا هذا الترجمة التي يستخدمها جميع اليهود الذين يتكلمون اللغة العربية، وإن شروحه لأسفار الكتاب المقدس "لتكاد تجعله" أعظم شارح للكتاب المقدس في جميع العصور (٨)"؛ ويعد "كتاب الأمانات والاعتقادات" (٩٣٣) أعظم رد في الدين اليهودي على الخارجين على هذا الدين.