وأراد الفاتحون أن يعمروا البلاد فدعوا إلى الهجرة إليها، وقدم إليها فيمن قدم خمسون ألف يهودي من آسية وأفريقية (١٨)، وكاد سكان بعض المدن مثل أليسانة أن يكونوا كلهم من اليهود. ولما أن تحرر اليهود في أسبانيا الإسلامية من القيود المفروضة على نشاطهم الاقتصادي انتشروا في جميع ميادين الزراعة، والصناعة، والمال، والمناصب العامة، ولبسوا ثياب العرب، وتكلموا بلغتهم، واتبعوا عاداتهم، فلبسوا العمامة والأثواب الحريرية الفضفاضة، وركبوا العربات حتى أصبح من العسير تمييزهم من بني عمومتهم الساميين. واستخدم عدد من اليهود أطباء في بلاط الخلفاء والأمراء وعين أحد هؤلاء الأطباء مستشاراً لأعظم خليفة من خلفاء قرطبة.
فقد كان حسداي بن شبروط (٩١٥ - ٩٧٠) بالنسبة لعبد الرحمن الثالث ما كانه نظام الملك في القرن التالي لملك شاه. وقد ولد حسداي في أسرة ابن عزرا المثرية المثقفة؛ وعلمه أبوه اللغات العبرية، والعربية، واللاتينية، ودرس الطب، وغيره من العلوم في قرطبة، وداوى الخليفة من أمراضه، وأظهر من واسع المعرفة وعظيم الحكمة في الأمور السياسية ما جعل الخليفة يعينه في الهيئة الدبلوماسية للدولة، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره كما يلوح. ثم عهدت إليه تباعاً أعمال أخرى ذات تبعات متزايدة في حياة الدولة المالية والتجارية. على أنه لم يكن له لقب رسمي لأن الخليفة تردد في منحه رسمياً لقب وزير خشية أن يثير عليه النفوس. ولكن حسداي قام بمهام منصبه الكثيرة بكياسة أكسبته محبه العرب، واليهود، والمسيحيين على السواء، وقد شجع العلوم والآداب، ومنح الطلاب الهبات المالية والكتب بلا ثمن، وجمع حوله ندوة من الشعراء، والعلماء، والفلاسفة، فلما مات تنافس المسلمون واليهود في تكريم ذكراه.