العقل، وقد قام معظم المفكرين اليهود من سعديا إلى ابن ميمون بهذه المحاولة في بيئة إسلامية، وأخذوا معلوماتهم عن الفلسفة اليونانية من التراجم العربية، ومن شروح المسلمين؛ وكتبوا بالعربية لليهود والمسلمين على السواء. وكما أن الأشعري وجه سلاح العقل ضد المعتزلة، وأنقذ بذلك العقيدة السنية في الإسلام، كذلك فعل سعديا الذي غادر مصر إلى بابل في نفس العام (٩١٥) حين تحول الأشعري من الشك إلى اليقين، وأنقذ الدين العبراني بطول جدله ومهارته فيه، ولم يستخدم سعديا أساليب المتكلمين المسلمين فحسب، بل استخدم كذلك دقائق مناقشاتهم نفسها (٢٦).
وكان لانتصار سعدياً من الأثر في الدين اليهودي ببلاد الشرق، ما كان لانتصار الغزالي في الإسلام ببلاد الشرق، فقد عمل هذا الانتصار، مضافاً إلى الاضطراب السياسي والاضمحلال الاقتصادي، على خنق روح الفلسفة العبرانية في الشرق. وكملت القصة في أفريقية وأسبانيا، في القيروان وجد اسحق إسرائيلي بين مشاغله في الطب والكتابة متسعاً من الوقت يؤلف فيه كتباً فلسفية ذات تأثير كبير. فقد وضع رسالة في التعاريف أفاد منها منطق المدرسين مصطلحات جمة، وعَرَّفت رسالته في العناصر التفكير العبراني بكتاب أرسطو في الطبيعة، وأحل كتابه في النفس والروح نظرية مأخوذة من الأفلاطونية الحديثة عن الفيض الإلهي التقدمي من الله إلى العالم المادي، أحل هذه النظرية محل قصة الخلق كما وردت في سفر التكوين؛ وكان هذا من مصادر القبة اليهودية.
وكان أثر ابن جبيرول فيلسوفاً أكبر من أثره شاعراً. ولقد كان من الطرف التاريخية أن المدرسين كانوا ينقلون أقواله في هالة من الإجلال والتقدير ويسمونه أفسبرون ويحسبونه مسلماً أو مسيحياً، ولم يعرف الناس أن ابن جبيرول وأفسبرون رجل واحد إلا حين كشف ذلك سلومون منك Salomon Munk في عام ١٨٤٦ (٢٧). وكاد ابن جبيرول نفسه أن يهيئ عقول الناس لهذا الخلط إذ حاول