أن يكتب الفلسفة بعبارات بعيدة كل البعد عن الدين اليهودي. فقد أخذ كل مقتبساته في مجموعة أمثاله المسماة مختار اللآلي من مصادر غير يهودية إذا استثنينا عدداً قليلاً من هذه المقتبسات، وإن كانت القصص الشعبية اليهودية تحتوي على ثروة كبيرة من الحكم القوية التي تعد من جوامع الكلم. ومن هذه اللآلي لؤلؤة كنفوشية إلى أبعد حد:"كيف يستطيع الإنسان أن يتأثر من عدوه؟ بزيادة صفاته الطيبة"(٢٨). وتكاد هذه الحكمة أن تكون خلاصة رسالته في إصلاح الصفات الخلقية التي ألفها ابن جبيرول كما يلوح وهو في سن الرابعة والعشرين حين تكون الفلسفة موضوعاً غير لائق بالإنسان. وقد اشتق الشاعر بأساليب في الاشتقاق اصطناعية جميع الفضائل والرذائل من الحواس الخمس، فأدى به هذا إلى نتائج غاية في السخف. ولكن الذي يمتاز به هذا الكتاب هو أنه حاول أن يضع في عصر الإيمان قانوناً للأخلاق لا يعتمد على العقيدة الدينية (٢٩).
وبهذه الجرأة عينها امتنع جبيرول عن أن يقتبس في أهم كتبه كلها وهو كتاب "مقور حايم" من الكتاب المقدس، أو التلمود، أو القرآن. وكان هذا البعد عن القومية هو الذي جعل الكتاب بغيضاً لأحبار اليهود، كما جعله في ترجمته اللاتينية المسماة "منبع الحياة Fous Vitae" عظيم الأثر في العالم المسيحي. وقد قبل ابن جبيرول في هذا الكتاب أصول الأفلاطونية الحديثة التي تسري في الفلسفة الإسلامية كلها، ولكنه فرض على هذه الأصول الفلسفية مبدأ الاختيار الذي يؤكد عمل الإرادة عند الله والإنسان. ويقول ابن جبيرول في كتابه إن علينا أن نفترض وجود الله بوصفه الهيولي الأول، والجوهر الأول، والإرادة الأولى إذا شئنا أن نفهم وجود الحركة في أي شيء على الإطلاق، ولكننا لا نستطيع قط معرفة صفات الله. ولم يخلق الله الكون في زمان معين، بل هو ينساب في فيض متصل متدرج من ذات الله. وكل شيء في الكون، ماعدا