أكثر منهم استقراراً، والتي كانوا يحيطون بها من كل الجهات تقريباً. وكان الجدب يدفع بهم من حين إلى حين إلى هذه الأصقاع الغنية فتشب بينها وبينهم الحرب، أو يتطلب منها ذلك الاستعداد الدائم للحرب (١). وكان الذي يحدث عادة أن تموت المملكة المستقرة وتحيا من بعدها القبيلة البدوية التي اجتاحت أراضيها في آخر الأمر. والعالم مليء بالأصقاع التي ازدهرت فيها الحضارة في يوم من الأيام والتي عاد البدو يجوسون خلالها من جديد.
وفي بحر الأجناس المتلاطم أخذت بعض الدول الصغرى تتشكل، ويكون لها نصيب صغير في تراث الجنس البشري، وإن لم يزد نصيبها هذا على أن تكون ناقلة وموصلة. ويهمنا من هذه الشعوب الميتانيون وليس ذلك لأنهم أعداء مصر الأقدمون في الشرق الأدنى بل لأنهم أول الشعوب الهندوروبية التي عرفناها في آسية، ولأنهم أول عبدة الآلهة- مثرا، وإندرا، وفرونا- التي انتقلت منهم إلى فارس والهند، فأعانتنا بانتقالها على تتبع حركات الجنس الذي كان يطلق عليه من قبيل التيسير الجنس "الآرى"(١).
وكان الحيثيون من أقوى الشعوب الهندوروبية القديمة ومن أكثرها حضارة؛ وأكبر الظن أنهم جاءوا عن طريق بسفور والهسبنت (الدردنيل) وبحر إيجه، أو عن طريق القفقاز، واستقروا طبقة عسكرية حاكمة تسيطر على الزراع سكان البلاد الأصليين في شبه الجزيرة الجبلية الواقعة جنوبي البحر الأسود والمعروفة الآن باسم آسية الصغرى. ونراهم حوالي عام ١٨٠٠ ق. م مستقرين قرب منابع دجلة والفرات، ثم نشروا بعدئذ جيوشهم وبسطوا نفوذهم في سوريا، وأقلقوا بال
(١) كان أول ظهور لفظ الآريين عند الحرى إحدى قبائل أمة الميتاني. وكان هذا اللفظ اسما أطلقته على نفسها مجموعة الشعوب الضاربة بقرب شواطئ بحر قزوين أو التي كان أصلها ممن يضربون بالقرب من هذه الشواطئ. أما اليوم فإن هذا اللفظ يطلق بنوع خاص على الميتانيين والحيثيين، والميديين، والفرس، والهنود الفدا- أي على الشعبة الشرقية من الشعوب الهندوربية التي عمرت شعبتها الغربية بلاد أوربا.