بفضل ما يمتاز به من الوضوح، وغزارة المادة، وصدق الأحكام. وبعد عشرين سنة من ذلك الوقت نشر أعظم كتبه كلها باللغة العبرية الجديدة وسماه متحدياً مستشيراً مشنا التوراة، وقد رتب فيه نظام منطقي، وإيجاز واضح، كل ما حوته أسفار موسى الخمسة من القوانين وجميع قوانين المشنا والجمارا ما عدا النزر اليسير. ويقول في مقدمة الكتاب:"لقد سميت هذا الكتاب مشنا التوراة (تكرار الشريعة) لأن من يقرأ الشريعة المسطورة (الأسفار الخمسة) لأول مرة، ثم يقرأ هذه المجموعة، يعرف الشريعة الشفوية جميعها من غير أن يحتاج في ذلك إلى الرجوع إلى أي كتاب آخر"(٤٦)، وقد أغفل فيه بعض ما ورد في التلمود من قواعد خاصة بالفأل والطيرة، والتمائم، والتنجيم، فكان ذلك من بين مفكري العصور الوسطى القلائل الذين لم يؤمنوا بالتنجيم (٤٧). وقد قسم الأوامر الواردة في الشريعة والبالغ عددها ٦١٣ أربعة عشر قسماً وضع لكل واحد منها عنواناً وخص كل عنوان "بكتاب". ولم يكتف بشرح كل قانون بل أخذ على نفسه بيان ضرورته المنطقية أو التاريخية. ولم يترجم إلى الإنجليزية من هذه الكتب الأربعة عشر إلا كتاب واحد، وهو مجلد ضخم نستطيع به أن نتبين ضخامة الكتاب الأصلي كله.
ويتضح من هذا الكتاب ومن كتابه الآخر الذي صدر بعده وهو: دلالة الحائرين، أن ابن ميمون لم يكن من الذين يجهرون بالإلحاد. بل إنه قد حاول جهده لكي يرجع المعجزات الواردة في الكتاب المقدس إلى علل طبيعية، ولكنه كان يدعو إلى الاعتقاد بأن كل لفظ في أسفار موسى الخمسة موحى به من الله، وإلى العقيدة الدينية القائلة بأن الشريعة الشفوية قد نقلها موسى إلى كبار رجال إسرائيل (٤٨). ولعله كان يشعر بأن اليهود لا يستطيعون أن يكون اعتقادهم في الكتاب المقدس أقل شأناً من اعتقاد المسيحيين والمسلمين فيه، ولعله هو أيضاً كان يرى أن لا قيام للنظام الاجتماعي بغير الاعتقاد في قدسية أصل القانون