ولكنهم إلى هذا يحترمون العقل أعظم مواهب الإنسان. أولئك ينبغي ألا يخيروا بين الدين بلا عقل وبين العقل بلا دين. وإذا كان العقل قد غرسه الله في الإنسان، فإنه لا يمكن أن يتعارض مع الوحي الإلهي، فإذا ما حدث هذا التعرض فسبب هذا-في رأي ابن ميمون-أننا نأخذ بمعناها الحرفي بعض العبارات الموائمة للعقلية الخيالية التصويرية التي هي من خصائص السذج غير المتعلمين الذين وجه إليهم الكتاب المقدس. ولقد قال أحبارنا إن من المحال أن نصف خلق الإنسان وصفاً كاملاً … ولقد وردت قصة هذا الخلق بعبارات مجازية حتى يستطيع فهمها غير المتعلمين كل بقدر ما له من مواهب، وما عليه إدراكه من ضعف. أما المتعلمون فيفهمونه فهماً مختلفاً عن فهم هؤلاء (٦١).
ثم ينتقل ابن ميمون من هذه النقطة الأولى إلى البحث في الذات الإلهية فيستنتج مما في الكون من شواهد التنظيم المحكم أن عقلاً سامياً يسيطر على هذا الكون، ولكنه يسخر من الرأي القائل إن الأشياء جميعها قد صنعت من أجل الإنسان (٦٢)؛ فالأشياء لم توجد إلا لأن الله، وهو مصدرها وحياتها، موجود:"ولو أمكننا أن نفترض أنه غير موجود لا ستتبع هذا أن لا شيء غير ممكن الوجود". وإذ كان لا بد بهذه الطريقة من وجود الله، فإن وجوده متلازم مع جوهره. و "الشيء الذي يحتوي في ذاته على ضرورة وجوده، لا يمكن أن يكون لوجوده علة أياً كانت (١) ". وإذ كان الله عاقلاً، فلا بد أن يكون غير ذي جسم؛ وعلى هذا فكل ما ورد في الكتاب المقدس من عبارات تشير إلى شيء من أعضاء الجسم أو أية صفة من صفاته يجب أن يفسر تفسيراً مجازياً. والحق، كما يقول ابن ميمون (ولعله يحذو في قوله هذا الحذو المعتزلة)، أننا لا نستطيع
(١) ولقد صاغ ابن سينا هذه القضايا المنطقية، وأخذها عنه القديس تومس أكويناس ثم كيفها اسبنوزا حتى توائم فكرة الهيولي الذاتي الوجود.