في حاجة إليه (٦٨). وقد أباح الله للإنسان الإرادة الحرة التي تجعل منه إنساناً بحق؛ وقد يختار الإنسان الشر أحياناً؛ والله تعلم مقدماً بهذا الاختيار، ولكن ليس هو الذي يقرره ويحتمه.
وهل الإنسان مخلد؟ هنا يستخدم ابن ميمون كل ما وهب من قدرة للتعمية على قرّائه، فهو يتجنب هذا السؤال في كتاب دلالة الحائرين، ولا يشير إليه إلا بقوله "إن النفس التي تبقى بعد الموت ليست هي النفس التي تعيش في الإنسان حين يولد"(٦٩). وهذه النفس أو العقل "المنفعل" وظيفة من وظائف الجسم تموت بموته؛ أما الذي يبقى فهو "العقل المكتسب" أو "العقل الفعّال" الذي وجد قبل الجسم، وليس وظيفة من وظائف على الإطلاق (٧٠). وهذه النظرة نظرة أرسطو وابن رشد تنكر كما يبدو الخلود الفردي. ولقد أنكر ابن ميمون في مشنا التوراة فكرة بعث الجسم وسخر من تصوير المسلمين للجنة تصويراً جسمانياً أبيقورياً، وقال إن تصويرها على هذا النحو في الإسلام واليهودية ليس إلا تمثيلاً لها بما يناسب خيال جمهرة الناس وحاجاتهم (٧١). وأضاف في دلالة الحائرين إلى قوله هذا أن: الموجودات غير الجسمية لا يمكن إحصاؤها إلا حين تكون قوى كائنة في الجسم (١)؛ وينطوي قوله هذا، كما يبدو، على أن الروح غير المادية التي تبقى بعد فناء الجسم ليست بذات إدراك فردي. وقد أثارت هذه الإشارات المتشككة كثيراً من الاحتجاجات لأن بعث الأجسام كان قد أصبح من العقائد الأساسية في الإسلام واليهودية. ولما كتب دلالة الحائرين بالحروف العربية أثار عقول العلماء في العالم الإسلامي؛ فقام عبد اللطيف، وهو عالم من علماء المسلمين، يسفهه لأنه "يهدم أركان جميع الأديان بنفس الوسائل التي يخيل إلى الناس أنه يدعمها بها"(٧٣). وكان صلاح الدين وقتئذ منهمكاً في حرب حياة أو موت من الصليبيين؛ وكان السلطان من المستمسكين طول حياته بأصول
(١) وقد استمد أكويناس من فكرته القائلة إن المادة هي "أصل الإنفرادية"!