الدين، وكان في هذا الوقت، بنوع خاص، أكثر بغضاً للإلحاد منه في أي وقت آخر لأن الإلحاد في ذلك الوقت يهدد الروح المعنوية الإسلامية، والمسلمون منهمكون في حرب مقدسة، بأشد الأخطار. ولهذا أمر في عام ١١٩١ بإعدام السهرودي، وهو صوفي زنديق؛ ونشر ابن ميمون في الشهر نفسه مقالة في بعث الموتى عبّر فيها مرة أخرى عن تشكه في عقيدة الخلود الجسمي ولكنه أعلن أنه يؤمن بها على أنها من قواعد الدين فحسب.
وسكنت هذه الزوبعة إلى حين، وانصرف هو إلى عمله الطبي وإلى كتابة فتاوي دينية أو أخلاقية وصلت إليه من العالم اليهودي. ولما عرض عليه شمويل ابن يهوذا بن تبون، وكان وقتئذ يترجم دلالة الحائرين إلى اللغة العبرية، أنه يرغب في زيارته حذره من أن يظن أنه سيحدثه في أي موضوع علمي ولو مدة ساعة واحدة باللي أو بالنهار لأن عمله اليومي يجري على النحو الآتي: "فأنا أقيم في القسطاط بينما يقيم السلطان في القاهرة على بعد مسيرة يومي سبت (١)(ميل واحد ونصف ميل). وواجباتي نحو نائب السلطان جد ثقيلة؛ فعليَّ أن أزوره في كل يوم في الصباح الباكر، وإذا ما كان هو، أو أحد أبنائه، أو أي فرد في داخل حريمه، منحرف المزاج، فلن أجرؤ على مغادرة القاهرة بل عليَّ أن أقيم معظم النهار في القصر … ولا أعود إلى الفسطاط إلى ما بعد الظهر … وأكون وقتئذ قد أوشكت أن أموت من الجوع. ولكني أجد غرفة الاستقبال مزدحمة بالناس، من رجال الدين، وموظفي الدولة، والأصدقاء، والأعداء … فأنزل عن دابتي، وأغسل يدي، وأرجو مرضاي أن يصبروا عليَّ حتى أتناول بعض المرطبات-وتلك هي الوجبة الوحيدة التي أتناولها كل أربع وعشرين ساعة. ثم أستقبل مرضاي … وأظل كذلك إلى أن يحل الليل،
(١) مسيرة السبت مسافة يبلغ مقدارها ألفي ذراع وهي التي يصرح لليهودي أن يمشيها في يوم السبت وتعادل المسافة بين النهاية القصوى للمعسكر والتابوت (الآية الرابعة من الإصحاح الثالث من سفر يشوع). (المترجم)