كل ما نعنيه أن السامية غالبة فيه. ولكن الحقيقة أنه لا توجد سلالة صافية ولم توجد قط ثقافة لم تتأثر بثقافة جيرانها أو ثقافة أعدائها. ومن واجبنا أن ننظر إلى هذه الرقعة الواسعة على أنها بيئة تدفقت على أجناسها المختلفة طوائف من هذا الجنس أو ذلك؛ فغلب عليها الجنس الهندوربي تارة وغلب عليها السامي تارة أخرى؛ ولكن غلبة هذا الجنس أو ذاك لم تثمر من الناحية الثقافية إلا اصطباغ هؤلاء الغالبين بالصفات الثقافية العامة في مجموع هذه الأجناس. فقد كان بين حمورابي ودارا الأول مثلاً اختلاف كبير في الدم والدين، وكان يفصل بينهما من القرون ما يكاد يفصل منها بيننا وبين المسيح؛ ولكننا إذا درسنا هذين العاهلين العظيمين دراسة دقيقة، أدركنا أن من وراء هذا الاختلاف قرابة جوهرية بعيدة القرار.
ومهد الجنس السامي ومرباه جزيرة العرب، فمن هذا الصقع الجدب حيث ينمو "الإنسان شديداً عنيفاً، وحيث لا يكاد ينمو نبات على الإطلاق"، تدفقت موجة في إثر موجة في هجرات متتابعة من خلائق أقوياء شديدي البأس لا يهابون الردى، بعد أن وجدوا أن الصحراء والواحات لا تكفيهم، فكان لابد لهم أن يفتتحوا بسواعدهم مكاناً خصباً ظليلاً يعولهم ويقوم بأودهم. فأما من بقي منهم في بلادهم فقد أوجدوا حضارة العرب والبدو، وأنشئوا الأسرة الأبوية وما تتطلبه من طاعة وصرامة خلقية، وتخلقوا بالجبرية وليدة البيئة الشاقة الضنينة، والشجاعة العمياء التي تدفع أصحابها إلى وأد بناتهم وتقديمهن قرباناً للآلهة. على أن الدين لم يكن أمراً جدياً بين هؤلاء الأقوام حتى جاءهم محمد بالإسلام؛ ولم يعنوا بالفنون وملاذ الحياة لأنهم كانوا يرونها خليقة بالنساء ومن أسباب الضعف والانحلال. وظلوا وقتاً ما يسيطرون على التجارة مع الشرق الأقصى، تتكدس في ثغورهم غلات جزائر الهند، وتحمل قوافلهم تلك الغلات وتنقلها في الطرق البرية غير الآمنة إلى فينيقية وبابل. وشادوا في قلب جزيرتهم العريضة المدن والقصور