مدة طويلة، فلما وقف على قدميه كان جلده قد تمزق وأصبح في حال يرثى لها، وهكذا داوى جراح نفسه بجراح قلبه".
وبعد أن عاش في هذه البرية المتوحشة بضع سنين واشتهر بين الناس بزهوه وثباته على تقواه، ألح عليه رهبان أحد الأديرة القريبة منه أن يكون رئيساً لديرهم، ولما أنذرهم بأن حكمه سيكون صارماً، لم يزدهم ذلك إلا إصراراً على رأيهم، فلم يرد بداً من إجابتهم على طلبهم والانتقال معهم إلى ديرهم. ولما قضى معهم أشهراً قليلة أخذهم فيها بأشد النظم دسوا له السم في النبيذ، فعاد إلى الحياة العزلة، ولكن بعض الشبان الأتقياء المخلصين جاءوا ليعيشوا بجواره، ويطلبوا هدايته، وجاء بعض الآباء بأبنائهم، ومنهم من كانوا من أهل روما نفسها، ليتلقوا عليه العلم، فلم يحل عام ٥٢٠ حتى قام حوله اثنا عشر ديراً صغيراً بكل منها اثنا عشر راهباً. ولما رأى كثيرون من هؤلاء الرهبان القلائل أن حكمه صارم لا يطيقونه، انتقل مع أشد أتباعه إلى حماسة مونتي كسينو وهو تل يرتفع ١٧١٥ قدماً عن سطح البحر، ويطل على بلدة كسينوم Cassinum القديمة التي تبعد عن كبوا أربعين ميلاً جهة الشمال الغربي. وهناك هدم معبداً وثنياً، وأنشأ في مكانه (حوالي ٥٢٩) ديراً ووضع أساس الحكم البندكتي الذي اهتدت به فيما بعد معظم الأديرة في بلاد الغرب.
وكان رهبان إيطاليا وفرنسا قد أخطئوا حين حذوا حذو نساك الشرق وعزلتهم، لأن مناخ أوربا الغربية ومناخ أهلها يجعلان هذا النوع من الحياة شاقاً عليهم مثبطاً لعزيمتهم، فأدى ذلك إلى نكوص كثيرين منهم على أعقابهم؛ فلما جاء بندكت لم يحرم التنسك ولم ينتقد النساك، ولكنه رأى من الحكمة أن يجعل التنسك جماعياً لا فردياً، خالياً من التنافس والتظاهر، يخضع في كل خطوة من خطواته إلى رئيس أحد الأديرة، ويقف عند الحد الذي إذا تعداه أضر بصحة الجسم أو بالعقل.