بعد أن توالت عليها الغارات والكوارث المخربة المقطعة لأوصالها مائة عام. ولقد أفلحت في غرضها هذا، ولما أن اضمحلت على أنقاضها وتراثها مدنيتنا الحديثة.
وبعد فليست العصور الوسطى حقبة للعالم أن ينظر إليها بتشامخ وازدراء. ذلك أنه لم يعد في وسعه أن يشهر بما كان فيها من جهل وخرافات، وتفكك سياسي، وفقر اقتصادي وثقافي؛ بل عليه بدلاً على هذا أن يعجب كيف استطاعت أوربا أن تفيق من الضربات المتعاقبة التي كالها لها القوط؛ والهون، والوندال، والمسلمون، والمجر؛ والشماليون، واحتفظت في وسط الاضطراب والمآسي بهذا القدر الكبير من الآداب والأساليب الفنية القديمة. ولا يسعه إلا أن يعجب بشارلمان، وألْفرِد، وأولاف، وأتو، وأمثالهم من الرجال الذين أقاموا من هذه الفوضى نظاماً كما يعجب ببندكت، وجريجوري، وبنيفاس، وكولمبا. وألكوين، وبرونو ومن إليهم من الرجال الذين صابروا وصبروا حتى بعثوا الأخلاق والآداب من قفار تلك الأيام؛ وبالمطارنة والصناع الذين استطاعوا أن يشيدوا الكنائس الكبرى، والشعراء المجهولين الذين استطاعوا أو يغنوا فيما بين كل حرب وحرب، وإرهاب وإرهاب. وكان لا بد للدولة والكنيسة أن تبدءا عملهما مرة أخرى من الدرك الأسفل، كما بدأه رميولوس ونوما قبلهما بألف عام، وكانت الشجاعة التي يتطلبها بناء المدن من الغابات، وخلق المواطنين الصالحين من الهمج، أعظم من أختها التي شادت شارتر، وأمين، وريمس في الزمن الحديث، أو هدأت حمى دانتي الانتقامية فصاغت منها شعراً موزوناً.