وعقدوا مجلساً للنظر فيما يجب أن يفعلوه، فقرر هذا المجلس أن يتخلوا عن بيت المقدس ويزحفوا على القاهرة البعيدة عنهم بنحو ٢٥٠ ميلاً. وكان رتشرد قد سئمت نفسه هذه الفعال، وعافتها، وملأ اليأس قلبه، فانسحب إلى عكا وأخذ يفكر في العودة إلى إنجلترا.
ولكنه لما سمع أن صلاح الدين عاود الهجوم على يافا، وأنه استولى عليها بعد يومين لا أكثر، أبى عليه كبرياؤه أن ينكص عن غرضه، وبعث في نفسه روحاً جديدة، وأقلع من فوره إلى يافا مع من استطاع أن يحشدهم من الجنود. ولما وصل إلى الميناء نادى بأعلى صوته "الويل للقاعد! " وقفز إلى وسطه في البحر، وأخذ يلوح ببلطته الدنمرقية الشهيرة ويقتل كل من يقف في سبيله، ثم قاد جنوده إلى داخل المدينة، وأخرج منها جميع الجنود المسلمين. كل هذا ولم يكد صلاح الدين يعرف ما حصل (١١٩٢). فلما عرفه استدعى القسم الرئيسي من جيشه لإنقاذ المدينة، وكان عدد رجاله يربو كثيراً على عدد جنود رتشرد الثلاثة الآلاف، ولكن شجاعة الملك وجرأته أكسبتاه النصر. ولما رأى صلاح الدين أن رتشرد راجلاً بعث إليه بجواد من عنده، وقال إن من العار أن يقاتل هذا الرجل الشهم راجلاً. وغضب جنود صلاح الدين من هذا العمل وأمثاله فلم يعودوا يطيقون صبراً عليه؛ وأخذوا يلومونه على أن ترك جنود حامية يافا أحياء ليقاتلوه فيها مرة أخرى. ثم سار رتشرد آخر الأمر- إذا جاز لنا أن نصدق رواة القصة المسيحيين- أمام جيش المسلمين وحربته مدلاة إلى جانبه، ولكن أحداً لم يجرؤ على مهاجمته (٣٧).
ثم تبدلت الحال في اليوم الثاني، وجاءت الإمداد إلى صلاح الدين، واستولى الملل مرة أخرى على رتشرد، وحبس عنه فرسان عكا وصور معونتهم، فأرسل بطلب الصلح من جديد. واشتدت عليه الحمى فطلب فاكهة وشراباً بارداً،