فما كان من صلاح الدين إلا أن بعث إليه بالكمثرى والخوخ والثلج، وبطبيبه الخاص. وفي اليوم الثاني من سبتمبر ١١٩٢ وقع البطلان شروط صلح يدوم ثلاث سنين، وقسمت فلسطين قسمين؛ فاحتفظ رتشرد بجميع ما فتحه من المدن الممتدة على طول الساحل من عكا إلى يافا؛ وسمح للمسلمين والمسيحيين بحرية الانتقال من أحد القسمين إلى الآخر، وتعهد السلطان بحماية الحجاج المسيحيين إلى بيت المقدس على أن تبقى المدينة في أيد المسلمين (ولعل التجار الإيطاليين الذين يهمهم قبل كل شيء أن يسيطروا على الثغور البحرية، قد أقنعوا رتشرد بالتخلي عن المدينة المقدسة نظير استيلائه على المدن الساحلية). وأقيمت المآدب والألعاب احتفالاً بالصلح؛ ويقول صاحب سيرة رتشرد في هذا:"واله وحده يعلم مقدار السرور الذي ملأ قلوب الشعبين، وهو سرور يجل عن الوصف"(٣٨). وزالت إلى حين الأحقاد من الصدور؛ ولما ركب سفينته إلى إنجلترا أرسل رسالته الأخيرة إلى صلاح الدين يتحداه، ويتوعده بأنه سيعود بعد ثلاث سنين ويستولي على بيت المقدس. وأجابه صلاح الدين بأنه إذا كان لابد أن تقطع يده فإنه يفضل أن يقطعها رتشرد (الأنكتار) لا أي رجل سواه (٣٩).
وبعد فإن اعتدال صلاح الدين، وصبره، وعدله قد غلبت بهاء رتشرد، وشجاعته، ومهارته الحربية؛ كما غلب المسلمون بفضل إخلاص زعمائهم ووحدتهم الزعماء الإقطاعيين المنقسمين على أنفسهم، والذين يعوزهم الولاء للغرض والإخلاص في المقصد؛ وكان قصر خط التموين من وراء المسلمين أعظم فائدة من سيطرة المسيحيين على البحار. وكانت الفضائل والأخطاء المسيحية أبرز في السلطان منها في الملك المسيحي؛ فقد كان صلاح الدين مستمسكاً بدينه إلى أبعد حد، وأجاز لنفسه أن يقسو أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفى؛ ولكنه كان في العدة شفيقاً على الضعفاء، رحيماً بالمغلوبين، يسمو على أعدائه في وفائه بوعده سموا