ومرسيليا، وبرشلونة كانت قبل الحروب الصليبية تتجر مع بلاد الشرق الإسلامية، وتخترق مضيق البسفور والبحر الأسود، ولكن الحروب الصليبية قد وسعن نطاق هذه التجارة إلى أبعد حد. وكان لاستيلاء البنادقة على القسطنطينية، ونقلهم الحجاج والمحاربين إلى فلسطين، وتوريدهم المؤن إلى المسيحيين وغير المسيحيين في بلاد الشرق، واستيرادهم المحاصيل الشرقية إلى أوربا- كان لهذا كله أكبر الأثر في انتعاش التجارة والنقل البحري انتعاشاً لم يكن له نظير منذ أيام مجد روما الإمبراطورية، وجاءت إلى أوربا بكميات موفورة من الأقمشة الحريرية والسكر والتوابل كالفلفل، والزنجيل، والقرنفل، والقرفة- وكانت كلها من مواد الترف النادرة في أوربا في القرن الحادي عشر. وانتقلت من الشرق إلى الغرب بكميات كبيرة نباتات ومحاصيل وأشجار عرفتها أوربا من قبل من بلاد الأندلس الإسلامية. ومن هذه الذرة، والأرز، والسمسم، والخروب، والليمون، والبطيخ، والخوخ، والمشمش، والكرز، والبلح. وسمى البصل الصغير المعروف باسم الشالوت والعسقلاني من اسم عسقلان الثغر الذي كان ينقل منه على ظهور السفن من الشرق إلى الغرب، وظل المشمش يسمى "برقوق دمشق" زمناً طويلاً (٦٨). وجاء من بلاد الإسلام الدمقس، والموصلين، والساتان، والمخمل، والأقمشة المزركشة، والطنافس، والأصباغ، والمساحيق، والعطور، والجواهر لتزدان بها بيوت أمراء الإقطاع وأهل الطبقات الوسطى ويتحلى بها رجالهم ونساؤهم (٦٩). وحلت المرايا الزجاجية المطلية بغشاء معدني محل المرايا المصنوعة من البرنز أو الصلب المصقول، وأخذت أوربا عن الشرق صناعة تكرير السكر والزجاج "البندقي".
ونمت الصناعة الفلمنكية بوجود أسواق جديدة لها في بلاد الشرق، وساعد