إيطاليا من السلطان السياسي ما لا يكاد يعرف له نظير قبل ذلك الوقت او بعده؛ وكما كانت المجاري المتدفقة من جبال الألب تمد بمائها الأنهار العظيمة في لمبارديا وتسكانيا، فتحمل المتاجر وتخصب السهول، كذلك كانت تجارة أقاليم أوربا الواقعة في شمال الألب وتجارة آسيا الغربية اللتان تلتقيان في شمالي إيطاليا سبباً في نشأة طبقة تجارية وسطى استخدمت ثروتها في تجديد المدن القديمة، وتشييد مدن جديدة، وتشجيع الآداب والفنون بالمال الوفير، وبث روح العزة والإباء التي حطمت بها أغلال الإقطاع.
وأخذ الأشراف يشنون من قصورهم الحصينة في الريف حرباً خاسرة على حركة استقلال المدن والحكم الذاتي فيها؛ فلما خضعوا لما لابد من الخضوع له، انتقلوا إلى الإقامة في المدن الكبيرة وأقسموا يمين الولاء لحكوماتهم المحلية. أما الأساقفة، الذين ظلوا قروناً طوالاً الحكام الحقيقيين والحكام القادرين الحازمين لبلدان لمبارديا، فقد خضعوا لهذه الحكومات بمساعدة البابوات، وكانوا قد تجاهلوا هذه السلطة من زمن بعيد. فأخذنا نسمع منذ عام ١٠٨٠ عن "قناصل" يحكمون لوقا Lucca، ثم نجدهم في عام ١٠٨٤ في بيزا، وفي عام ١٠٩٨ في أرزو Arezzo، وفي عام ١٠٩٩ في جنوى، وفي عام ١١٠٥ في بافيا، وفي عام ١١٣٨ في فلورنس. وظلت مدائن شمالي إيطاليا حتى القرن الخامس عشر تعترف بسيادة الإمبراطورية الرسمية وتصدر أوراقها الحكومية باسمها (٩٧)؛ ولكنها كانت من الوجهة العملية الواقعية حرة مستقلة، وقد عاد إليها العهد القديم عهد المدينة- الدولة بكل ما فيه من فوضى ومن حافز.
وتطلب تحرير المدن في فرنسا كفاحاً عنيفاً في كثير من الأحيان؛ فقد أفلح الأساقفة الحاكمون في له مان Le Mans (١٠٦٩) ، وكمبرية (١٠٧٦) وريمس (١١٣٩)، بما كانوا يصدرونه من أحكام الحرمان تارة وبالقوة تارة أخرى، أفلحوا في القضاء على الحكومات المحلية التي أقامها الأهلون؛ أما في