عن التجار؛ وأنهم كالشعب نفسه في حاجة إلى أن تطهر أخلاقهم أو تصاغ من جديد، وأن يختتنوا في أرواحهم كما يختتنون في أجسامهم كما يقول إرميا بعبارته العجيبة:"اختتنوا للرب وانزعوا غُرَل قلوبكم"(١٢٦).
وكان هذا النبي يخطب قومه مندداً بما كان منتشراً بينهم من فساد بألفاظ من نار لا يعادلها في شدتها إلا خطب القديسين في جنيفا واسكتلندة وإنجلترا في عهد الإصلاح الديني. فكان يسب اليهود أقذع سباب ويصور لهم وهو جذلان ما سيحل بمن لا يستمعون إليه من هلاك (١٢٧). وكم من مرة تنبأ لهم بتخريب أورشليم وسبيهم على يد البابليين، ورثى لما سيحيق بالمدينة (التي يسميها بنت صهيون) من قضاء نعتهم بعبارات ما أشبهها بعبارات المسيح: "يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع، فأبكي ليلاً ونهاراً قتلى بنت شعبي"(١٢٨).
وخيل إلى الأمراء في حاشية صدقيا أن هذا كله غدر بالوطن وخيانة له وتفريق لآراء اليهود وأرواحهم في ساعة المحنة. ولكن إرميا لم يعبأ بأقوالهم وأخذ يسخر منهم وحمل نيراً خشبياً فوق عنقه، وأخذ يقول أن يهوذا كلها يحب أن تخضع لنير البابليين، وأن من الخير لها أن يكون خضوعها هذا خضوعاً سلمياً بلا حرب ولا قتال، ولما انتزع منه ضانياً نيره صاح قائلاً أن يهوه سيصب لكل يهودي نيراً من حديد. وحاول الكهنة أن يثنوه عن عمله هذا بوضع رأسه في الدهق، ولكنه وهو في هذا الوضع ظل يشهر بهم، فما كان منهم إلا أن استدعوه إلى الهيكل وأرادوا أن يقتلوه، غير أنه استطاع أن يفلت منهم بمعونة صديق له بين الكهنة. ثم قيض عليه الأمراء وربطوه في حبال وأنزلوه بها في بئر مملوءة بالوحل، ولكن صدقيا خفف هذا العقاب بأن سجنه في فناء القصر وفيه وجده البابليون حين سقطت أورشليم في أيديهم. أمر نبوخدنصر رجاله أن يحسنوا معاملته، وأن يعفوه من قرار النفي العام. وتقول إحدى الروايات الموثوق بها أنه كتب "مراثيه" في أخر أيامه (١٢٨)! وهذه المراثي هي أبلغ أسفار العهد القديم بأجمعها