وفي العمل على استقرار القانون وبسط سلطانه، تفضل غيرها من المجتمعات الإيطالية في العصور الوسطى. وسبقت القوانين التي سنتها البندقية لتنظيم أعمال الأطباء والصيادلة أمثالها في فلورنس بنصف قرن من الزمان؛ وحرمت القوانين في عام ١٣٠١ قيام الصناعات المضرة بالصحة بين المساكن، وأخرجت من البندقية جميع الصناعات التي تنفث الدخان المؤذي في الهواء. وكانت قوانين الملاحة شديدة مفصلة، كما كانت جميع الواردات والصادرات خاضعة لرقابة الدولة وسيطرتها، وكانت التقارير الدبلوماسية تعني بأحوال التجارة أكثر من عنايتها بالشؤون السياسية، وأصبحت الإحصاءات الاقتصادية للمرة الأولى جزءاً من الحكم في هذه المدينة (١٠).
وكادت الزراعة تكون غير معروفة في البندقية، أما الصناعات اليدوية فكانت متقدمة لأن هذه المدينة استوردت من مدن البحر المتوسط القديمة فنوناً وحرفاً كادت تقضي عليها الاضطرابات السياسية في الغرب، واشتهرت مصنوعات الحديد، والشبه، والزجاج، والأقمشة المنسوجة من خيوط الذهب والحرير، واشتهرت كلها في القارات الثلاث، وأكبر الظن أن بناء القوارب للتنزه، أو الاتجار، أو الحرب كان أعظم صناعات البندقية. وقد وصلت هذه الصناعة إلى مرحلة الإنتاج الرأسمالي بالجملة، والتمويل الجماعي، وكادت تصل إلى المرحلة الاشتراكية لسيطرة أكبر عميل لهذه الصناعة وهو الدولة. وكانت سفائن جمالية المنظر عالية الجؤجؤ، منقوشة الأشرعة، في بعضها مائة وثمانون مجذافاً تربط البندقية بالقسطنطينية، وصور، والإسكندرية، ولشبونة، ولندن، وعشرات من المدن الأخرى بسلسلة ذهبية من المرافئ والمتاجر. وكانت بضائع من وادي البو تصل إلى البندقية كي يعاد شحنها منها إلى الخارج؛ وكانت بضائع مدن نهر الرين تأتيها بعد أن تجتاز جبال الألب لتنتشر من موانيها في عالم البحر المتوسط؛ وكان مصفق المدينة Rialto أكثر الأماكن حركة في سائر أنحاء أوربا،