يزدحم بالتجار، والملاحين ورجال المصارف القادمين من مائة قطر، ولم تكن ثروة شمالي أوربا تضارع غناء هذه المدينة التي يرتبط كل شيء فيها بعجلة التجارة والمال، والتي كانت السفينة الواحدة من سفنها التي ترسل إلى الإسكندرية تعود منها بربح يعادل ألفاً في المائة من المال المستثمر في بضائعها- إذا لم تلاق عدواً، أو قرصاناً، أو عاصفة مدمرة (١١). وقصارى القول أن البندقية كانت أغنى المدن الأوربية في العصور الوسطى، ولعلها لم يكن يضارعها في ثرائها إلا المدائن الصينية التي وصفها ماركو بولو ابن البندقية وصفاً لا نستطيع تصديقه.
إلا أن العقيدة تضمحل كلما زادت الثرة. ولقد كان البنادقة يكثرون من استخدام الدين في الحكم، ويواسون من لا أصوات لهم في إدارة الشؤون العامة بالمواكب ويمنونهم بجنة النعيم؛ غير أن الطبقات الحاكمة قلما كانت تسمح للمسيحية أو للحرمان من حظيرة الكنيسة بأن يعترض سبيل الحرب أو الأعمال المالية، فقد كان شعارها "نحن بنادقة، ونحن بعد ذلك مسيحيون Siamo Veneziani poi Cristiani" (١٢) ، وتطبيقاً لهذا الشعار لم يكن لرجال الدين نصيب ما في الحكم (١٣)، وكان التجار البنادقة يبيعون السلاح والرقيق، ويمدون المسلمين الذين يقاتلون المسيحيين بالمعلومات الحربية (١٤). وكان شيء من التسامح يصحب هذا الحرص على الكسب المتميز بسعة الأفق؛ فقد كان في وسع المسلمين أن يأتوا إلى البندقية وهم آمنون، وكان اليهود- وخاصة في الجيودكا Giudecca جزيرة أسبنالنجا Spinalunga يقيمون شعائر دينهم في معابدهم وهم آمنون.
وقد ندد دانتي بـ"فجور البنادقة الطليق"(١٥)، ولكن ليس من حقنا أن نصدق ما يوجهه من نقد رجل يصب اللعنات ذات اليمين وذات الشمال. وأكثر من أقوال دانتي دلالة على أخلاق البنادقة تلك العقوبات الصارمة الواردة