بضاعتهم، والممثلون، واللاعبون على الحبال ونحوها، والشعراء الجائلون يمثلون أدوارهم، والمنادون يعلنون ما يريدون، والمواطنين يثرثرون بعد قداس أيام الآحاد، والشبان أو الفرسان يتبارون في الألعاب الرياضية أو البرجاس. وكانت قاعة عامة للمدينة، وبضعة حوانيت وبيوت ومساكن مشتركة يتكون منها سياج من الآجر حول الميدان. ومن هذا المكان الوسط تمتد الشوارع المتعرجة الملتوية التي يبلغ من ضيقها أنه إذا سار فيها راكب فر س أو مرت بها عربة اضطر الراجلون إلى الانزواء في مدخل بيت أو الالتصاق بجدار. ولما تقدم القرن الثالث عشر وازدادت ثروة الأهلين استخدمت قطع القرميد في تسقيف البيوت المطلية جدرانها بالمصيص فراق منظرها في أعين من يستطيعون نسيان الوحل والروائح الكريهة. وكان الميدان والشوارع الكبرى دون غيرها هي المرصوفة، وكان يحيط بالمدينة سور ذو أبراج وشرفات لأن الحروب كانت كثيرة في تلك الأيام، وكان من واجب الإنسان أن يعرف كيف يقاتل إذا لم يشأ أن يكون راهباً.
وكانت ميلان وجنوى أكبر هذه المدن كلها. وكانت جنوى- الفخمة كما كان يسميها أحباؤها- ذات موقع ممتاز للعمل والمتعة. فقد كانت تقوم على تل مواجه للبحر الذي يغري بالاتجار، وتستمع بجو الرفييرا الدافئ الذي يمتد إلى رابلو Rapallo في الشرق وسان ريمو San Remo في الغرب. وكانت جنوى منذ أيام الرومان ثغراً نشيط الحركة، ولهذا كان سكانها تجاراً، وصناعاً، ورجال المصارف، وصناع السفن، وبحارة، وجنوداً، وساسة. ونقل مهندسو جنوى الماء النقي إليها من الألب الليجورية Ligurian Alps في قناة مسقفة لا تقل عن قنوات روما القديمة، وأقاموا حاجزاً ضخماً في الخليج المسمى باسمها ليجعلوا مرفأها العظيم آمناً في أثناء العواصف والحروب. وقلما كان أهل جنوى يعنون بالآداب أو الفنون في تلك الأيام؛ شأنهم في هذا شأن البنادقة المعاصرين لهم؛ فقد كانوا يصرفون جهودهم كلها في التغلب على منافسيهم وارتياد سبل جديدة