الرحيمة من أهل بالرم يأتون الطعام لهذا الغلام الملكي البائس (٢٦). وكان يسمح له بأن يجري في شوارع العاصمة المتعددة الأجناس واللغات وفي أسواقها كما يشاء، وأن يختار أصدقاءه كما يشتهي. ولم يتلق الغلام تعليماً منتظماً، ولكن عقله المتعطش للمعرفة كان يتعلم من كل ما يرى ويسمع، حتى لقد دهش العالم فيما بعد من اتساع معلوماته ودقتها. فقد تعلم في تلك الأيام وبالطريقة السالفة الذكر اللغتين العربية واليونانية، وبعض معارف اليهود، وعرف في أيام شبابه خلقاً من شعوب مختلفة، ذوي ملابس، وعادات، وعقائد متباينة، ولم يتخل قط عن عادة التسامح التي ألفها في صغر سنه. وقرأ كثيراً من كتب التاريخ، وأصبح كاتباً بليغاً ومثاقفاً ماهراً، ومغرماً بالخيل والصيد. وكان قصير القامة، قوي البنية، "ذا وجه جميل جذاب"(٢٧)، وشعر ملو أحمر طويل، نشيطاً، فخوراً، سريع البت في الأمور. ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، فصل الرجل الذي انتدبه البابا لينوب عنه في الوصاية عليه وتولى زمام الأمور بنفسه. وبلغ الحلم في الرابعة عشرة وتزوج في الخامسة عشرة من كنستانس الأرغونية Constance of Aragon، وشرع يعمل ليسترد عرش الإمبراطورية.
وواتاه الحظ فنال بغيته، ولكن ذلك لم يكن من غير ثمن. وتفصيل ذلك أن أتو الرابع نقض العهد الذي قطعه على نفسه بأن يحترم سيادة البابا في الولايات البابوية، فحرمه البابا من الكنيسة، وأمر بارونات الإمبراطورية وأساقفتها أن يختاروا لعرشها فردريك الشاب الذي تحت وصايته "لأن له حكمة الشيوخ وإن كان لايزال في سن الشباب"(٢٨). ولكن إنوسنت، وقد مال فجأة إلى فردريك، ولم يتحول عن غرضه الأول وهو حماية البابوية من كل عدوان عليها. ولهذا طلب إلى فردريك نظير تأييده إياه (١٢١٢) أن يتعهد له أن تظل صقلية إقطاعية للبابوات تؤدي لهم الجزية، وأن يحمي الولايات البابوية من كل عدوان؛ وأن تظل "الصقليتان"- وهما إيطاليا الجنوبية النورمانية والجزيرة- منفصلتين