الشوارع وملتقيات الطرق والحقول. ولما أن تمخض القرنان الثاني عشر والثالث عشر عن أنبل مولد للشعور الديني في التاريخ أقبل الفقراء والأغنياء، والأذلاء والعظماء، ورجال الدنيا ورجال الدين، والفنانون، والصناع، اقبل هؤلاء جميعاً يجودون بما ادخروه من مال وبما لديهم من حدق ومهارة لتكريمها في ألف كنيسة وكنيسة سميت كلها إلا القليل منها باسمها أو كان أبهى ما فيها حرماً خاصاً هو ضريحها.
وعلى هذا النحو نشأ دين جديد، ولعل السبب في بقاء الكثلكة إلى هذا اليوم هو أنها استوعبت هذا الدين. وصيغ إنجيل لمريم، لا تعترف به الكنيسة، ولا يصدقه العقل، ولكنه يفتتن به افتتاناً يجل عن الوصف، وضع الشعب ما فيه من القصص وسطرها الرهبان، نذكر منها القصة الذهبية التي تقول إن أرملة قدمت ولدها الوحيد استجابة لنداء وطنها، فلما أسره العدو أخذت الأرملة تصلي إلى العذراء في كل يوم أن تنقذ ولدها وترده إليها، ومرت على ذلك أسابيع طوال لم تستجب العذراء لدعائها، فما كان منها إلا أن سرقت تمثال الطفل عيسى من بين ذراعي أمه وأخفته ببيتها، وحينئذ فتحت العذراء السجن، وأطلقت سراح الشاب، وأمرته أن "بلغ أمك، يا بني أن ترد إلي ولدي بعد أن رددت إليها ولدها"(٩٦). وجمع رئيس دير فرنسي يدعى جولتييه ده كوانسي Gaultier de Coincy أقاصيص مريم في قصيدة طويلة مؤلفة من ثلاثين ألف بيت، نجد فيها العذراء تشفي راهباً مريضاً بأن تجعله يمتص اللبن من ثديها العذب. وقبض على لص كان على الدوام يصلي لها قبل أن يقدم على السرقة، وعلق اللص ليشنق، ولكن يديها ظلتا ترفعانه دون أن يراهما أحد فلما تبين الناس أنها تحميه، أطلق سراحه، وخرجت راهبة من ديرها لتحيا حياة الإثم، فلما عادت إلى الدير بعد عدة سنين تائبة محطمة الروح، وجدت العذراء- التي لم تغفل هي عن الصلاة إليها في كل يوم- قد شغلت مكانها على الدوام، وأن