أحد عشر قرناً إلى الوراء، فجعله إمبراطوراً رومانياً رواقياً أكثر منه مسيحياً، لا يشك قط في أن من حقه أن يحكم العالم.
وكان من الطبيعي، وذكرى هؤلاء البابوات الأقوياء لا تزال مائلة في أذهان أهل روما، أن يقيم إنوسنت سياسته على الاعتقاد بقداسة منصبه ورسالته. ولهذا كان شديد الحرص على أبهة الاحتفالات البابوية وفخامتها، ولم ينزل قط أمام الجماهير عن قلامة ظفر من جلال منصبه وعظمته. وكان صادق الإيمان بأنه هو وارث السلطات التي يعتقد الناس عامة أن المسيح وهبها للحواريين وللكنيسة، فلم يكن في مقدوره أن يعترف بأن لأحد ما له هو من السلطان. ومن أقواله في هذا المعنى:"إن المسيح لم يترك لبطرس حكم الكنيسة كلها فحسب بل ترك له حكم العالم بأجمعه"(١٢٢) ولم يكن يدعي لنفسه السلطة العليا في الشؤون الأرضية أو الزمنية الخالصة، اللهم إلا في الولايات البابوية (١٢٣)، ولكنه كان يصر على أنه إذا ما تعارضت السلطة الروحية مع السلطة الزمنية وجب أن تسمو السلطة الروحية على السلطة الزمنية كما تسمو الشمس على القمر. وكان يستمسك بالمثل الأعلى الذي يستمسك به جريجوري السابع - وهو أن على الحكومات أن ترضي بأن يكون لها مكان في دولة عالمية يتولى البابا رياستها، على أن تكون له الكلمة العليا في جميع الشؤون القضائية، والأخلاقية، والعقائد الدينية، وأوشك في وقت ما أن يحقق هذا الحلم، فقد نفذ جزءاً من خطته على أثر استيلاء الصليبيين على القسطنطينية في عام ١٢٠٤، إذ خضعت الكنيسة اليونانية إلى أسقف روما، واستطاع أن يتحدث وهو مغتبط عن ثوب المسيح غير المخيط، وأخضع بلاد العرب وأرمينية البعيدة نفسها السيطرة الكرسي البابوي في روما، واستطاع أن يكون هو صاحب الحق في تعيين رجال الدين في مناصبهم، واندفع في سلسلة من المغامرات والنزاع الخطيرة انتهت بإرغام رؤساء الحكومات الأوروبية على الاعتراف، بسيادته عليهم سيادة لم يسبق لها من قبل مثيل.