حتى كدت أصبح غريباً عن نفسي (١٣١) " ولعله كان يسعه في آخر سنة من حياته أن يرجع بذاكرته إلى أعماله، وأن يحكم عليها حكماً موضوعياً أصدق من حكمه عليها في غمرة النزاع الذي كان وقت أن قام بها. لقد أخفقت الحملات الصليبية التي نظمها لاسترداد فلسطين، وكانت الحملة التي نجحت بعد وفاته هي التي أبيد فيها الألبجنسيون في جنوبي فرنسا بوحشية مجردة من كل رحمة. نعم إنه نال إعجاب مواطنيه، ولكنه لم ينل حبهم كما نال جريجوري الأول أو ليو التاسع، وقد شكا بعض رجال الدين من أنه كان ملكاً أكثر منه رجل دين، وظن القديس لتجاردس Lutgardia أنه لن يستطيع الفرار من النار إلا بشق الأنفس (١٣٢)، وحتى الكنيسة نفسها امتنعت عن أن تسلكه في عداد القديسين وفيهم من هم أقل وأكثر منه إطاعة لصوت الضمير، وإن كانت تفخر بعبقريته وتشكر له صادق جهوده.
ولكننا لا ينبغي لنا أن نضن عليه بأنه رفع الكنيسة إلى ذروة مجدها، وأوشك أن يحقق ما كانت تحلم به من أن تصبح دولة عالمية مسيطرة على شؤون الناس الأخلاقية. وكان هو أقدر حكام زمانه، يعمل لتحقيق أغراضه ببعد نظر، وإخلاص، ومزيج من الإصرار والمرونة، وجهود لا يكاد يصدقها الإنسان، فلما مات في عام ١٢١٦ كانت الكنيسة قد بلغت من دقة التنظيم، وعظيم الأبهة، وبعد الصيت، وقوة السلطان، ما لم تعرف له نظيراً قبل، وما لم تستمع بعد إلا في فترات جداً نادرة وقصيرة.
وليست لهونوريوس الثالث (١٢١٦ - ١٢٢٧) منزلة عالية في سجلات التاريخ القاسية، لأنه كان لرقة حاشيته عاجزاً عن أن يخوض بقوة الحرب الناشبة بين الإمبراطورية والبابوية، أما جريجوري التاسع (١٢٢٧ - ١٢٤١) فقد خاض غمار هذه الحرب بعزيمة تكاد تصل إلى درجة التعصب، وأن كان قد بلغ الثمانين من العمر حين جلس على كرسي البابوية وقد حارب فرديك