للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحدهم، وألا يتخذ صورة الدعوة الثورية للناس بأن ينبذوا عقيدتهم وكنيستهم (١١٠). ويقول كاتب هو أكثر نقاد الكنيسة المحدثين نشاطا إن، في الكنيسة إذ تضم السكان أجمعين، تضم كذلك كل صنف من أصناف العقول، من أكثر العقول تخريفاً إلى أكثرها لا أدرية، وإن كثيراً من العناصر التي تكن مستمسكة بالدين الرسمي، كانت تعمل تحت ستار الامتثال الرسمي بحرية أوسع مما يظن الناس عادة (١١١).

وجملة القول أن الصورة التي نرسمها في أذهاننا للكنيسة اللاتينية في العصور الوسطى هي أنها منظمة معقدة التركيب، تبذل كل ما في وسعها رغم ما يتصف به أبناؤها وزعماؤها من عيوب كامنة في فطرة الآدميين، لإرساء قواعد النظام الأخلاقي والاجتماعي، ونشر العقيدة الدينية التي تسمو بالناس وتواسيهم وسط حطام حضارة قديمة، وعواطف ثائرة، لمجتمع يجتاز دور التفاهة.

لقد كانت أوربا حين وحدتها كنيسة القرن السادس أشبه ببضاعة متناثرة بعد غرق سفينة بضاعة من الهمج المتنقلين، وكانت خليطاً من الألسنة والعقائد، وفوضى من الشرائع غير المسطرة التي لا يحصيها العد. ولكن الكنيسة وهبتها قانوناً أخلاقيا تؤيده سلطة فوق سلطة البشر، تبلغ من القوة ما يكفي لقمع الغرائز غير الاجتماعية الكامنة في نفوس ذوي العنف من الناس، ووهبتها كذلك أديرة يلجأ إليها الرجال، والنساء، وتأوى المخطوطات القديمة، وحكمتها بمحاكم كنسية، وربتها في المدارس والجامعات، وذللت قيادة ملوك الأرض لتحميل التبعات الأخلاقية وواجبات السلام، وخلعت على حياة أبنائها بهجة الشعر، والتمثيل، والغناء، وأوحت إليهم أن يقيموا أجل ما في التاريخ كله من أعمال فنية ولما عجزت عن إقامة مدينة فاضلة تسودها المساواة بين رجال مختلفي الكفايات نظمت الصدقات والضيافات، وحمت الضعفاء إلى حد ما من الأقوياء. وكانت بلا ريب أعظم قوة تعمل لنشر لواء الحضارة في تاريخ أوربا خلال العصور الوسطى.