هذه الدول وأولئك الملوك، وتخفف من حدة منازعاتها ومنازعاتهم. وإذا كان لا بد من قيام دولة عالمية، فهل ثمة مقر لها يبدو أليق من عرش القديس بطرس، يستطيع الناس مهما يكن من ضيقه أن يتطلعوا منه بعين قارية، ومن ورائها أحقاب طوال؟ وهل ثمة قرارات أكثر قبولا عند الناس في سلام، وأيسر تنفيذاً، من قرارات حبر من الأحبار يجله جميع سكان أوربا الغربية ويرون أنه خليفة الله في أرضه؟ وحسبنا دليلا على ما كان لقرارات هذه السلطة من قوة أنه لما خرج لويس التاسع إلى الحرب الصليبية في عام ١٢٤٨: اشتد هنري الثالث ملك انجلترا في مطالبه من فرنسا واستعد لغزوها. فأنذر البابا إنوسنت الرابع إنجلترا بالحرمان إذا أصر هنري على مطالبة، ونكص هنري على عقبيه. ويقول هيوم المتشكك إن سلطان الكنيسة كان ملجأ حصيناً من عسف الملوك وظلهم (١٠٩) ولو أن الكنيسة اقتصرت في استخدام سلطاتها على الأغراض الروحية والخلقية، ولم تستخدمه قط لتحقيق الأغراض المادية، لحققت المثل الأعلى الذي كان يرتجيه حريجوري السابع- ولجعلت سلطانها الأخلاقي يعلو على قوى الدول المادية وكاد حلم جريجوري هذا بتحقق حين ضم إربان الثاني شتات العالم المسيحي لقتال الأتراك، فلما أطلق إنوسنت الثالث وجريجوري التاسع، وإسكندر الرابع، وبنيفاس الثامن اسم الحروب الصليبية المقدسة على حروبهم ضد الألبحنسيين، وفردريك العاني وآل كولنا، فلما فعلوا هذا تحطم المثل الأعلى العظيم في أيدي البابوات الملطخة بدماء المسيحيين.
وكانت الكنيسة إذا لم يتهددها خطر تصطنع التسامح الكثير مع أصحاب الآراء المخالفة، بل وآراء الضالين، وسوف نجد ما لم تكن نتوقعه من الحرية الفكرية بين فلاسفة القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بل سوف نجد هذه الحرية بين أساتذة الجامعات المرخصة من قبل الكنيسة، والخاضعة لإسرافها، وكل ما كانت تطلبه أن يكون نقاشهم مقصوراً على المتعلمين، ومفهوما منهم