المسيحية هي التي خلقت الرأي العام في تلك الأيام، وأنها هي التي أوجدت القانون إلى حد ما، وأكبر الظن أنه لولا القانون الأخلاقي الذي خلقته المسيحية، وما كان له من أثر ملطف، لكانت الفوضى التي أوجدتها خمسة قرون من الغزو، والحروب، والتدمير والتخريب أشد مما كانت. ولقد يكون الباعث الذي حملنا على اختيار الأمثلة التي ذكرناها في هذا الفصل هو التحيز غير المقصود، فإن لم يكن فإن أحسن ما توصف به أنها جزئية غير وافية، ذلك أن الإحصاءات معدومة وإن وجدت فهي غير موثوق بها، ومن شأن التاريخ أن يسقط من حسابه على الدوام الرجل العادي. وما من شك في أنه كان العالم المسيحي في العصور الوسطى آلاف من السذج الأخيار أمثال أم الأخ سلمبين Salimbene التي يصفها بأنها: "سيدة متواضعة تقية مخلصة، تكثر الصوم، ويسرها أن توزع الصدقات على الفقراء"(١٤٠)، ولكن كم مرة نعثر في صفحات التاريخ على مثيلات هذه السيدة؟.
ولقد كانت للمسيحية في الأخلاق آثار رجعية وآثار تقدمية معاً. فلقد كان من الطبيعي أن تضمحل الفضائل الذهنية في عصر الإيمان، وحلت الغيرة والحماسة، والإعجاب بالصلاح والطهارة، والتقوى غير المستندة إلى الضمير، في بعض الأحيان؛ حلت هذه محل الذمة العقلية (النزاهة في النظر إلى الحقائق) والبحث عن الحقيقة. وبدا للناس أن "الأكاذيب التقية" الممثلة في تبديل النصوص، وتزوير الوثائق آثام عرضية بسيطة يتجاوز عنها. وتأثرت الفضائل المدنية بقصر الاهتمام على الحياة الآخرة، وتأثرت أكثر من هذا بانحلال الدولة، ولكن الذي لا شك فيه أن حب الوطن، مهما يكن حبا محليا، لم ينعدم في قلوب الرجال والنساء الذين شادوا هذه الكنائس الكبرى الكثيرة، وبعض الأبهاء العظيمة في المدن. ولعل النفاق، الذي هو من مستلزمات الحضارة، قد زاد في العصور الوسطى، إذ نظرنا إليه في ضوء نزعة القدماء الدنيوية الصريحة،