اضطهاد هؤلاء المسيحيين واجب للابقاء على دولتهم أو دينهم الذي خالوه صحيحاً. وأكثر من هذا "أن الذين اضطهدوا المسيح أنفسهم أو اضطهدوا اتباعه، وهم يرون من واجبهم أن يضطهدوهم، قد ارتكبوا إثماً من حيث عملهم، ولكن لو أنهم امتنعوا عن اضطهادهم مخالفين بذلك ما تمليه عليهم ضمائرهم لارتكبوا بذلك إثماً أكبر"(٤٤). قد يكون هذا كله منطقاً سليماً معاً؛ ولكن إذا أخذ بهذه النظرية فأن عقيدة الخطيئة من أولها إلى آخرها من حيث مخالفتها لأوامر الله معرضة لأن تتبخر في تيار الجدل القائم حول النيات فلا يبقى لها وجود قط؛ فأي الناس، إذا استثنينا القديس بولس وعدداً قليلاً ممن هم على شاكلته، يعترف بأنه عمل ما يخالف ضميره؟ وكانت ست فقرات من الفقرات الست عشرة التي أدين أبلار من أجلها في عام ١١٤١ مأخوذة من هذا الكتاب.
وكان الذي أزعج الكنيسة أكثر من أي إلحاد معين تبينته عند أبلار هو افتراضه أن لا أسرار في الدين، وأن العقائد كلها يجب أن تكون قابلة للتفسير القائم على العقل، ولم يكن ثمة غرابة في صدور هذا القول منه. ألم يكن ثملاً بنشوة المنطق الذي جرؤ على يربطه بكلمة الله ويكاد يجعله من العلوم القديسة؟ (٤٥). ولنا أن نتساءل كم من العقول القاصرة غير الناضجة التي تأثرت بجرثومة ذلك التحليل المنطقي قد ضلت طريقها بحججه الطلية المؤيدة والمعارضة، إذا سلمنا بأن هذا الأستاذ الذي أفتتن به الناس وأغواهم قد وصل بأساليب غير مستقيمة إلى نتائج صحيحة سليمة؟ ولو أنه لم يكن له أمثلة من نوعه لترك وشأنه دون أن يناله أذى، رجاء ألا يطول أجله. لكنه كان له أتباع متحمسون، وكان ثمة معلمون غيره -وليم الكنشسى William of Conches، وجلبرت ده لابربه Gilbert de la Porrée، وبرنجر التوري Berenger of Tours- وكانوا كلهم يضعون الدين على مرشحة العقل. فإذا ظل هذا التيار يجري في مجراه، فإلى متى تستطيع الكنيسة أن تحتفظ بوحدة المقيدة الدينية وقوة الإيمان