التراب أو الرمل … وعلى هذا فإن جيشاً صغيراً يمكن أن يبدو للناظر كبيراً … وقريباً منه كل القرب … وفي وسعنا أيضاً أن نجعل الشمس، والقمر، والنجوم تبدو كأنها قد نزلت إلينا، … وما إلى هذا من الظواهر الكثيرة المماثلة مما لا يتقبله عقل الشخص الذي يجهل الحقائق … (١١٩) ويمكن إلى هذا تصوير السماء بكل ما لها من طول وعرض بصورة مجسمة تتحرك حركتها اليومية، وقيمة هذا عند الرجل العاقل تعادل مملكة بأسرها … ثمة عجائب أخرى غير هذه يخطئها الحصر ويمكن عرضها على العين (١٢٠).
تلك فقرات ذات روعة وجلال، ويكاد كل عنصر من عناصر النظرية التي نبسطها يوجد قبل بيكن وخاصة في كتب ابن الهيثم؛ ولكنه هو الذي جمع مادتها كلها في صورة عملية ثورية استطاعت وقت أن حل أوانها أن تبدل العالم. وهذه الفقرات هي التي أرشدت ليونارد دجس Leonard Diggis ( المتوفى حوالي ١٥٧١) إلى وضع النظرية التي اخترع المرقب على أساسها (١٢١).
ولكن ما الذي يحدث إذا زاد تقدم العلوم الطبيعية من قدرة الإنسان دون أن يسمو بأغراضه؟ لعل أكثر نظرات بيكن نفاذاً إلى الصميم هي سبقه إلى تصور مشكلة لم تتضح للعالم إلاّ في أيامنا هذه، فهاهو ذا في الكتاب الأكبر يعبر عن اعتقاده الراسخ أن العلم وحده لا ينجي الإنسان:
كل هذه العلوم السالفة الذكر نظرية. ولسنا ننكر أن لكل علم وجهة عملية؛ … ولكن الفلسفة الأخلاقية وحدها هي التي نستطيع أن نقول عنها … إنها عملية في جوهرها … لأنها تبحث في سلوك الإنسان، في الفضيلة والرذيلة، في السعادة والشقاء … والعلوم الأخرى كلها لا قيمة لها إلاّ من حيث أنها تعين على العمل الصالح؛ وعلى هذا الاعتبار تصبح العلوم "العملية"، كالتجارب والكيمياء، وغيرها علوماً نظرية إذا قورنت بالعمليات التي تعنى بها العلوم الأخلاقية أو السياسية. وعلم الأخلاق هذا هو سيد كل رفع من فروع الفلسفة (١٢٢).