أو الملق، أو التواضع الكاذب، أو الخنوع، أو الجبن؛ بل إن أقوى رجال ذلك العصر، ومنهم البابا الذي يدّعي أنه صاحب السلطان الأعلى، يهاجمون بقوة وحرارة ليس لهما في الشعر كله مثيل. وفيها فضلاً عن هذا كله خيال وثّاب يسري فيها كلها ويبعث فيها القوة، ويغالب شيكسبير لينتزع منه لواء الشعر: فيها صور واضحة حية لأشياء لم يرها الأرباب أو البشر؛ ووصف الطبيعة لا تستطيعه إلاّ روح يقظة قوية الملاحظة مرهفة الحس؛ وقصص قصيرة، كقصة فرانسسكا وأجلينو، تجمع المآسي العظيمة في حيز صغير دون أن تترك منها شيئا ذا بال. نعم إن هذا الرجل خلو من الفكاهة، ولكن فيه حُبًّاً ظل حتى أحالته المصائب لاهوتاً.
ويبلغ دانتي آخر الأمر بقصيدته مرتبة السمو. نعم إننا لا نجد في ملحمته ما نجده في الإلياذة من تيار الحياة الجارف أو تتابع الحوادث سراعاً، كما أننا لا نجد فيها ما في شعر فرجيل من انسياب سهل هادئ، أو يمتاز به شكسبير من إدراك شامل، وتسامح، وغفران الذنوب؛ ولكن فيها عظمة، وقوة معذبة نصف همجية تستبق ميكل أنجلو وتنبئ بقدومه؛ وإذ كان دانتي ممن يحبون النظام كما يحبون الراية، فقد قيد عواطفه ورؤياه فخلع عليهما صورة محددة، ولهذا أخرج قصيدة ذات قوة ماثلة أمام أعيينا لم يصل إلى مثلها إنسان آخر من بعده. وقد ظلت إيطاليا طوال القرون التي أعقبت عصره تجله وترى فيه الرجل الذي حرز لغتها الذهبية من القيود؛ وتلقى بترارك ويوكاشيو ومائة غيرهما من الأدباء الإلهام من وقائعه وفنه، ورددت أوربا كلها أصداء قصة المنفّي الفخور الذي سار إلى الجحيم ثم عاد منها ولم يبتسم قط بعد عودته.