تمتاز بدقة في اللفظ وغزارة في المادة، لا يستطيع أن يجاريها فيهما أو يستمتع بهما إلاّ الفيلسوف المدرسي. ذلك أن دانتي كان يحيا في عصره حياة قوية عميقة تكاد قصيدته بسببها أن تتحطم تحت عبء الإشارات إلى الحوادث والمعاني المعاصرة التي لا يمكن فهمها إلاّ إذا أضيف إليها كثير من الشروح التي تعطل تتابع القصة.
وكان يحب أن يعلم الناس، ولهذا أراد أن يفرغ في قصيدة واحدة ما تعلمه كله تقريباً، وكانت النتيجة أن البيت الحي من الشعر يرقد إلى جانب السخافات الميتة، ويضعف جمال بياتريس وفتنتها بأن ينطقها بما يحبه ويكرهه في الشئون السياسية. وهو يقطع قصته ليصب جام غضبه على مائة مدينة أو جماعة أو فرد، ويغرق ملحمته أحياناً في بحر من السباب؛ وهو متيم بحب إيطاليا؛ ولكن بولونيا مليئة بالقوادين (٥٩)، وفلورنس هي الثمرة المحبوبة من ثمار الشيطان (٦٠)، وبستونيا حظيرة للوحوش (٦١)، وجنوى "استشرى فيها الفساد"(٦٢)؛ وأما بيزا "ألا لعنة الله على بيزا! ألا ليت نهر الآرنو يسد عند مصبه، ويغرق بيزا كلها، بما فيها من حرث ونسل، تحت مياهه الصاخبة"(٦٣). ويظن دانتي أن "الحكمة العليا، والحب الأزلي" هما اللذان خلقا الجحيم. وهو يعد بأن يزيل الجليد لحظة من الزمان عن عيني البريجو Alberigo إذا ما أخبره هذا باسمه وقص عليه قصته. ويجيبه البريجو إلى ما طلب ويرجوه أن ينجز ما وعد- ويقول "مد إليَّ يدك، وافتح عيني! " - ويواصل دانتي حديثه قائلاً: ولكنني "لم أفتحهما له؛ لأن الوقاحة معه هي المجاملة بعينها"(٦٤). ألا إننا سننجو جميعاً من العذاب إذا كان رجل مليء قلبه بهذا الغل يستطيع أن يطوف به طائف خلال الجنة.
ومع هذا كله فإن قصيدته أعظم كتب العصور الوسطى، ومن أعظم كتب التاريخ بأجمعه. ذلك بأن تجمع قوتها وغزارة مادتها تدريجياً خلال أغانيها البالغ عددها مائة أغنية تجربة لا يستطيع قارئ أكمل قراءتها أن ينساها؛ وهي كما قال فيها كارليل Carlyle أعظم القصائد إخلاصاً؛ فليس فيها شيء من الادعاء،