أننا يجب ألاّ ننسى أن أتباع أبلار كانوا يسمون أنفسهم محدثين moderni، وأن أسقف إكستر Exeter قد وصف في عام ١٢٨٧ القرن الذي يعيش فيه بأنه "الزمن الحديث moderni tempores" (١) . أضف إلى هذا الحد الفاصل بين العصور "الوسطى" والعصور "الحديثة" يتقدم على الدوام؛ وأن عصر الفحم والزيت والأحياء القذرة المليئة بالدخان والكَتَن، إذا حل محله عصر أكثر منه نظاماً وأرحم مه حياة، قد يعد من العصور الوسطى. كذلك لم تكن العصور الوسطى مجرد فترة بين حضارة وحضارة. ذلك أننا إذا أرخنا بداية هذه العصور بقبول روما للمسيحية وبمؤتمر نيقية في عام ٣٢٥، رأيناها تشمل القرون الأخيرة من حياة الثقافة اليونانية - الرومانية القديمة، ونضوج المسيحية الكاثوليكية حتى أضحت حضارة كاملة غنية في القرن الثالث عشر، وانقسام تلك الحضارة إلى الثقافتين المتعارضتين وهما النهضة والإصلاح الديني. وشيء آخر خليق بالذكر، وهو أن رجال العصور الوسطى كانوا ضحية للهمجية، ثم صاروا هم أنفسهم الغالبين للهمجية، وأمسوا بعدئذ المنشئين لمدنية جديدة. وليس من الحكمة أن ننظر بعين الكبرياء إلى عصر أنجب هذا العدد الجم من عظماء الرجال وعظمات النساء، ورفع منار البابوية فوق أنقاض العصور الوسطى، وأقام الدول الأوربية وجمع بالكدح الدائب تلك الثروة التي خلفتها لنا تلك العصور (١).
وقد جمع هذا التراث بين الشر والخير. فأما عن الشر فنقول إننا لم نفق بعد كل الإفاقة من العصور المظلمة: من اضطراب الأمن الذي يثير المطامع والشهوات، والخوف الذي يولد القساوة، والفقر الذي يوجد القذارة والجهل، والقذارة التي تتفشى بسبها الأمراض، والجهل الذي يؤدي إلى سرعة التصديق وإلى الإيمان بالخرافات، والسحر - كل هذا لا يزال باقياً بيننا؛ وإن العقائد التحكمية القائمة
(١) قصرنا الجزء الأكبر من هذه الإعادة على الحديث عن المسيحية في العصور الوسطى، ولن نعيد هنا الخلاصة التي كتبناها عن الحضارة الإسلامية في ختام الكتاب الثاني في هذا المجلد.