على غير أساس من العقل، والتي أدت إلى التعصب وإلى محاكم التفتيش لا تزال تنتهز الفرص أو الإذن لكي تظلم، وتقتل، وتدمر، وتخرب. وليست "العصرية" بهذا المعنى إلاّ ستاراً يغشى مبادئ العصور الوسطى وعاداتها، ولا تزال هذه المبادئ والعادات باقية في الخفاء؛ وليست الحضارة في أي جيل من الأجيال إلاّ ثمرة من ثمار الكدح الذي تقوم به قلة مزعزعة مغمورة وميزة اضطرارية لهذه القلة. ولقد خلفت محاكم التفتيش آثارها السيئة في المجتمع الأوربي: فقد جعلت التعذيب جزءاً مقرراً معترفاً به في الإجراءات القضائية، وردت الناس من مغامرات العقل إلى الاتفاق الراكد المنبعث من الخوف.
والدين أهم ما ورثنا إياه عصر الإيمان: أورثنا يهودية ظلت حتى القرن الثامن عشر يستوعبها التلمود؛ وأورثنا الإسلام الذي هدأت عقول أصحابه بعد انتصار السُنَّة على الفلسفة في القرن الثاني عشر، ومسيحية انقسمت بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ولكنها لا تزال رغم هذا الانقسام أقوى الأديان وأعظمها أثراً في تاريخ الرجل الأبيض. فعقيدة كنيسة العصور الوسطى يدين بها الآن ٣٣٠. ٠٠٠. ٠٠٠ من الرومان، و ١٢٨. ٠٠٠. ٠٠٠ من الأرثوذكس والكاثوليك؛ ولا تزال شعائرها تحرك النفوس بعد أن أخفقت كل الحجج المنطقية. ولقد خلفت جهد الكنيسة في ميادين التعليم، والصدقات، وبث الأخلاق الفاضلة في نفوس الهمج من الناس، خلفت هذه الجهود إلى العالم الحديث تراثاً ثميناً من النظام الاجتماعي، والتأديب الخلقي. ولسنا ننكر أن ما كانت تحكم به البابوية من قيام دولة أوربا الموحدة قد قضى عليه النزاع الذي قام بين الإمبراطورية والبابوية؛ ولكن ما من جيل من الأجيال لا تستثيره رؤى نظام أخلاقي دولي يسمو على النظم الأخلاقية المتضاربة السائدة في الدول المستقلة ذات السيادة.
ولما أن قضى على ذلك الحلم البابوي اتخذت الأمم الأوربية الشكل الذي