لا تزال تحتفظ به في جوهر حتى هذا القرن، وتأهب مبدأ القومية لكتابة التاريخ السياسي للأزمنة الحديثة. وابتدع عقل العصور الوسطى في هذه الأثناء أنظمة من القانون المدني والكنسي، ودساتير بحرية وتجارية، وعهوداً لحرية المدن، ونظام المحلفين، وحق القضاء في إطلاق سراح المسجون بلا محاكمة. وفي العصور الوسطى وضع نبلاء الإنجليز العهد الأعظم، واعَدَّت المحاكم والمجالس القضائية للدول والكنيسة أساليب الحكم ودواليب الإدارة الباقية إلى هذه الأيام. وظهر نظام الحكم النيابي في الكورتيز Cortes مجلس أسبانيا النيابي، والألثنج Althign مجلس أيسلندة، وجمعية الطبقات الفرنسية، والبرلمان الإنجليزي.
وكان أعظم من هذا كله تراث العصور الوسطى الاقتصادي: فقد استغلت هذه العصور البراري المقفرة، وكان لها النصر في مغالبة الغابات، والحراج، والمستنقعات، والبحار، وأخضعت تربة الأرض لإرادة الإنسان. وقضت العصور الوسطى على الاسترقاق في معظم أجزاء أوربا الغربية، وكادت تقضي أيضاً على نظام رقيق الأرض. ونظمت العمال المنتجين في نقابات الحرف، وهي النقابات التي لا تزال من المثل العليا عند رجال الاقتصاد الذين يسعون لإيجاد طريق وسط بين الأفراد غير المسئولين والدولة الأتوقراطية. ولقد ظل الخياطون، والأساكفة، وصناع الملابس إلى وقتنا هذا يقومون بأعمالهم اليدوية في حوانيت خاصة كما كانوا يقومون بها في العصور الوسطى؛ وكان خضوعهم لنظام الإنتاج الكبير وللتنظيم الرأسمالي على مرأى ومسمع منا. وإن المواسم الكبرى التي تعقد في المدن الحديثة ويجتمع فيها الناس والسلع لمن مخلفات تجارة العصور الوسطى؛ كما أن من هذا التراث أيضاً ما نبذله من جهد لمنع الاحتكار، وتحديد الأثمان والأجور؛ ولقد ورثنا عمليات المصارف الحديثة كلها تقريباً من نظم العصور الوسطى المالية، وحتى منظماتنا الأخوية، وجمعياتنا السرية تمتد جذورها وشعائرها إلى العصور الوسطى نفسها.