القديسين، ويأخذ حججه عن المسيحية أكثر مما يأخذها من النصوص الوثنية .. وكان يسخر من انقسام الفلاسفة على أنفسهم ويقول إنه "لم يجد بينهم من الأتفاق أكثر مما يجده بين الساعات (١٧). وكان من أسباب شكواه أن "الفلسفة لا تهدف إلا إلى التقسيم والتفتيت، وإلى التنقيب عن الاختلافات والفروق، والتلاعب بالألفاظ " (١٨). وتلك طريقة يمكن أن تخلق أشخاصاً بارعين في النقاش والجدل، ولكنها قلما تخلق عقلاء .. وكان يسخر من درجة "الاستاذ " أو "الدكتور " التي تتوج هذه الدراسات، وعجب كيف تستطيع الحفلات أن تبدل الأبله الأحمق عالماً تحريراً. ونبذ، في ألفاظ تكاد تكون هي بعينها ألفاظ أهل هذه الأيام، التنجيم والكيمياء الكاذبة القديمة، وحلول الشياطين في أجسام الآدميين، والفأل والطيرة، وزجر الطير، ومعرفة الغيب عن طريق الأحلام، وما كان يروى في أيامه من المعجزات (١٩) وأوتى من الشجاعة ما استطاع به أن يثنى على أبيقور (٢٠)، في الوقت الذي كان اسمه مرادفاً للكفر بالله. وكان من حين إلى حين يتحدث حديث المتشككين، ويجهر بهذا التشكك جهر ديكارت به ويقول: "إني لارتيابي في مواهبي … أتقبل الشك نفسه على أنه حقيقة … فلا اوكد شيئاً، وارتاب في كل شئ إلا حيث يكون الشك تجديفاً " (٢١).
ويبدو أنه حين استثنى هذا كان مخلصاً في استثنائه. ذلك أنه لم يكن يجهر بأي شك في عقيدة ما من عقائد الكنيسة، فقد كان ظرفه ودماثة خلقه وراحة باله مانعة له من الإلحاد. وقد وضع كثيراً من المؤلفات التي تنطق بتقواه وخشوعه، وهو يسائل نفسه سؤال المتحير: ألم يكن خيراً له أن يشق طريقه سهلا إلى الجنة كما شقها أخوه في ظل حياة الدير الهادئة. ولم يكن يرى نفعاً في فلسفة ابن رشد الإلحادية التي كانت قريبة منه في بولونيا وبدوا، وكانت المسيحية في نظره تقدماً لا شك فيه على الوثنية، وكان يرجو أن يتبين الناس أن في وسعهم أن يتعلموا دون أن يتخلوا عن مسيحيتهم.