القوة ما لا ينفع ربه وسيده وحده، بل ينفع كذلك كثيرين غيره، وإن لم يولدوا إلا بعد موت صاحبه بآلاف السنين … وكما أنه لا يوجد بين المباهج الدنيوية ما هو أسمى من الأدب، فكذلك لا يوجد بينها ما هو أبقى على الزمن، أو أرق، أو أكثر وفاء، أو ما يلازم صاحبه في جميع صروف الحياة نعيمها وشقائها، دون أن يكلفه إلا القليل من الجهد أو انشغال البال " (١٤).
لكنه مع هذا يحدثنا عن "أمزجته المتقلبة التي قلما كانت تسعده، والتي كانت عادة تنزع به إلى القنوط " (١٥). وكان لا بد له، إذا أراد أن يكون كاتباً عظيما، أن يكون مرهف الإحساس بجمال الشكل والصوت، في الطبيعة، وفي النساء والرجال على السواء، أي أنه كان عليه أن يعاني أشد مما تعانيه الكثرة الغالبة منا من صخب العالم وما فيه من تشويه. وكان يحب الموسيقى، ويجيد العزف على العود، وكان يعجب بالتصوير الجميل، ويعد سيمون مرتيني Simone Martini من بين اصدقائه. وما من شك في أن النساء كن يجتذبنه، وشاهد ذلك أنه يتحدث عنهن في بعض الأحيان بخوف لا يقل عن خوف النساك الزاهدين، ويؤكد لنا لأنه لم يتصل قط بامرأة اتصالاً جسمانياُ بعد أن بلغ سن الأربعين، ويقول في هذا:"إن قوة الجسم والعقل التي تكفى النشاط الأدبي وتكفى مع الزوجة، لا بد أن تبلغ درجة كبرى من العظم "(١٦).
ولم يعرض بترارك على العالم فلسفة جديدة. فقد نبذ الفلسفة الكلامية المدرسية لأن كل ما رآه فيها هو بتر وتقطيع منطقي لا جدوى منه وبعيد كل البعد عن مطالب الحياة. وتحدى القائلين بعصمة أرسطو من الخطأ، وجرؤ على تفضيل أفلاطون عنه. ورجع عن أكوناس ودنزاسكوتس إلى الكتاب المقدس وكتب آباء الكنيسة، وأحب تقوى أوغسطين وأقواله المنغمة الجميلة، كما أحب رواقية أمبروز المسيحية، بيد أنه كان يقتبس من اقوال شيشرون وسنكا بإجلال لا يقل عن إجلاله ما يقتبسه من أقوال