للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أصابه من هزال، وحدث في عام ١٤٧٤ أن اشتدت تقواه عن ذي قبل بعد أن استمع إلى العظات التي كان يلقيها الراهب ميشيل Fra Michele أيام الصوم الكبير، وسره أن يرى كثيرين من أهل فرارا يأتون بأقنعتهم، وشعرهم المستعار، وأوراق اللعب، والصور البذيئة، وغيرها من متاع الدنيا ليلقوها على كومة حريق في ميدان السوق. وبعد عام من ذلك الوقت هرب خلسة من بيته، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ودخل ديراً للبندكتيين في بولونيا.

وكتب رسالة رقيقة إلى أبويه يرجوهما أن يغفرا له أنه خيب ما كانا يرجوان له من رقي في الشؤون الدنيوية؛ ولما أن ألحا عليه بالعودة رد عليهما مغضباً: "أيها الأعميان! لماذا تداومان على البكاء والأسى؟ إنكما تزعجاني وإن كان عليكما أن تبتهجا … وليس لي ما أقوله إذا داومتما على هذا الحزن إلا أنكما ألد أعدائي وأعداء الفضيلة؟ فإن كان ذلك، قلت لكما: كونوا كلكم دوني، يا من ترتكبون الإثم" (٣). وأقام في دي بولونيا ست سنين، وكان في خلالها يطالب في عزة وفخر أن يعهد إليه بأحقر الأعمال، ولكن موهبته الخطابية تكشفت في اثناء هذه المدة، وعهد إليه بالخطابة، ثم نقل إلى سان ماركو في فلورنس عام ١٤٨١، وكلف بالخطابة في كنيسة سان لورندسو، لكن مواعظه فيها لم ترق الجماهير، لأنها كانت ممتعة من الناحية النظرية والتلقينية أكثر مما كانت تطيقه مدينة عرفت بالغة الإنسانيين وأسلوبهم المصقول؛ فأخذ من يستمعون إلى عظاته يقل عددهم اسبوعاً بعد أسبوع؛ فما كان من رئيس الدير إلا أن خصه بتعليم المستجدين. واكبر الظن أن السنين الخمس التالية هي التي تكونت فيها أخلاقه واتخذت صورتها النهائية. ولما ازدادت مشاعره وأغراضه قوة ظهرت آثارها على ملامحه، فتغضنت جبهته وتجهمت، وانقبضت شفتاه الغليظتان تنمان عن قوة العزيمة، وانحنى أنفه الضخم إلى الخارج كإنما كان يريد أن يحيط