للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالعالم أجمع، وبدا وجهه مكتئباً قاسياً، ينم عن قدرة لا حد لها على الحب والكره، وجسمه الضئيل تحطمه وتنتابه الرؤى، والآمال الخائبة، والأعاصير الداخلية المستنبطة، وكتب وقتئذ لأبويه يقول: " لا زلت لحماً ودماً مثلكما؛ ولا زالت حواسي مستعصية غير خاضعة لعقلي، ولهذا كان لا بد لي أن أناضل بقسوة كي أمنع الشيطان أن يقفز على ظهري" (٤). وعمد إلى السوط وجلد نفسه كي يتذلل ما بدا له أنه الفساد المتأصل في الطبيعة البشرية. وإذا كان قد جسد وساوس الجسم والكبرياء فجعلها أصوات الشيطان، فإنه لم يكن أقل من ذلك استعداداً لأن يجسد نصائح نفسه الخيرة وتحذيراتها. وهام وهو بمفرده في صومعته يعلي من شان وحدته بأن يصور نفسه كأنه ميدان تصطرع فيه الارواح التي تحوم حوله ليظفر منها الخبيث او الطيب، وخيل إليه آخر الأمر أن الملائكة وكبارهم يتحدثون إليه، واخذ ألفاظهم على أنها وحي إلهي، وقام فجأة يتحدث إلى العالم كأنه نبي اختير ليكون رسولاً من عند الله، وآمن أشد الإيمان بالرؤى غير المعترف بها والمعزوة إلى الرسول يوحنا، وورث فلسفة الأخرويات عن يواقيم الفلوري، Joachiem of Flora الصوفي، وقال كما قال يواقيم إن عهد المسيح الدجال قد أقبل، وإن الشيطان قد استحوذ على العالم، وإن المسيح سيظهر بعد قليل ليبدأ حكمه في الأرض، وإن الانتقام الإلهي سيحل بالطغاة، والزانين، والكافرين ممن خيل إليهم أنهم يسيطرون على إيطاليا.

ولما أن أرسله رئيس ديره ليخطب في لمبارديا (١٤٨٦) تنحى سفنرولا على أسلوبه التعليمي الذي كان يصطنعه في شبابه، وصاغ عظاته في صورة التشهير بالرذائل الخلقية، والتنبؤ بيوم الدينونة، والدعوة إلى التوبة. واصغى إليه آلاف ممن لم يكونوا يستطيعون تتبع حججه الأولى، وأخذوا يستمعون في وجل إلى البلاغة الجديدة الثائرة القوية التي ينطق بها رجل خيل إليهم أنه يتحدث عن يقين وتأييد إلهي. وسمع بيكو دلا مرندولا بما أوتيه