في الجدار المجصص بالحرارة المنبعثة من موقد على الأرض. وكانت الحجرة رطبة، والشتاء شديد البرودة، فلت تعلو الحرارة علوا كافيا، ولم يمتص الجص الطلاء، وبدأت الألوان التي في أعلى الجدار تسيل، ولم يفلح ما بذله من مجهود جبار في أن يمنع التلف. ونشأت في هذه الأثناء صعاب مالية، فلم يؤجره مجلس السيادة أكثر من خمسة عشر فلورينا (١٨٨؟ دولارا) في الشهر، وهو مبلغ ضئيل ينقص كثيرا عن المائة والستين أو نحوها التي كانت مخصصة له في ميلان. ولما أن عرض عليه موظف قليل الكياسة أن يؤدي له أجرة نحاسية رفضها ليوناردو، وترك العمل مجللا بالعار مفعما باليأس، وكل ما كان له من سلوى قليلة هو أن ميكل أنجيلو لم يرسم صورة ملونة بعد أن أتم صورته التمهيدية، لأنه قبل دعوة البابا يوليوس الثاني بالقدوم إلى روما ليقوم بها ببعض الأعمال. وهكذا أخفقت المباراة العظمى إخفاقاً يؤسف له، وكان من أثره أن فلورنس أصبحت حاقدة على أعظم فنانين في تاريخها كله.
وقضى ليوناردو في العمل فترات متقطعة من ١٥٠٣ إلى ١٥٠٦ رسم فيها صورة موناليزا أي السيدة إلزبتا الزوجة الثالثة لفرنتشيسكو دل جيوكندو الذي صار عضوا في مجلس السيادة في عام ١٥١٢. ولعل طفلا من أبناء فرانتشيسكو دفن في عام ١٤٩٩ كان من أبناء إلزبتا هذه، ولربما كانت هذه الفاجعة من أسباب الملامح الجدية الحزينة الكامنة وراء بسمات صورة جيوكندا La Gioconda. ةفي وسعنا أن نتبين الروح التي أقبل بها على هذه الصورة الفاتنة التي أمتزج فيها التصوير بالفلسفة، إذا علمنا أن ليوناردو أستدعى صاحبتها إلى مرسمه مرارا كثيرة في هذه السنوات الثلاث، وأنه قد سخر في رسم صورتها جميع أسرار فنه وما فيه من تدرج غير محَس، فيخلع عليها في رقة الضوء والظلال، ويحيطها بمنظر خيالي خلاب من الشجار والمياه، والجبال والسماء، ويكسوها أثوابا من المخمل والساتان،