المحبوسة في الأقفاص ليطلقها (٢٧)؛ غير أنه كان يبدو بليد الإحساس في بعض النواحي الأخرى. ويلوح أنه قد افتتن أيما افتتان بتصميم أدوات الحرب، وأنه لم يشعر بغضب قوي على الفرنسيين لأنهم ألقوا في غيابة الحب لدوفكيو الذي ظل ستة عشر عاماً يفق عليه عن سعة في ميلان، ولقد طاوعته نفسه، دون أن يبدو عليه شيء من وخز الضمير، إلى الذهاب لخدمة بورجيا في الوقت الذي كانت تخشى فيه ميلان اعتداءه على حريتها. وكان ككل فنان، وكل مؤلف، وكل لوطي، شديد الإدراك لنقائصه، مرهف الحس، كثير الغرور، انظر إلى قوله:" إذا كنت وحدك فأنت كلك ملك لنفسك، أما إذا كان معك رفيق فأنت نصف نفسك؛ لأنك بهذا تقسم نفسك كما يهوى رفاقك"(٢٨) ومع أنه كان في وسعه أن يتألق في المجتمعات بوصفه موسيقياً ومحدثاً بارعاً، فإنه كان يفضل العزلة ويقضى وقته منهمكاً في أداء واجباته، ومن أقواله في هذا المعنى:" إن الحرية أكبر هبات الطبيعة"" ولا شك أنه قال هذا القول لأنه لم يشعر قط بآلام الجوع".
وكانت فضائله هي الثمار الطيبة لعيوبه. فربما كانت كراهيته للصلات الجنسية قد أمكنته من أن يصرف قواه في عمله؛ وما من شك أن إحساسه المرهف قد فتح له آفاق لا تحصى من الحقائق لا تدركها عين الرجل العادي. فقد كان يتتبع طوال النهار، وفى خلال كثير من الشوارع، وجهاً غير عادي، ثم يعود إلى مرسمه ليرسمه رسماً متقناً كأنه جاء بهذا النموذج نفسه معه. وكان عقله يبتهج أشد الابتهاج بالأشياء الشاذة الغريبة سواء كانت أشكالا أو أعمالا أو آراء غير مألوفة. وقد كتب مرة يقول " إن النيل قد ألقى في البحر من المياه أكثر مما تحتويه الأرض جميعها من ماء في هذه الأيام " ولهذا فإن جميع البحار والأنهار قد مرت بمصب النيل عدداً لا يحصى من المرات" (٣٠). وكانت نزعة شبيهة بهذه هي التي دفعته إلى أساليب