ولعل الطبقات الوسطى كانت أسعد أهل المدينة، وكانت تشترك وهي مرحة في المباهج الخاصة والعامة؛ وكان من هذه الطبقات صغار رجال الدين، وموظفو الحكومة، والأطباء، ورجال النيابة العامة، ورجال التعليم، والمشرفون على الصناعة ونقابات الحرف، والأعمال الحسابية في المصارف الأجنبية، والقائمون على التجار المحلية. ولم يكن يقلق بالهم حرصهم على الاحتفاظ بالمال الكثير كما يحرص الأغنياء، أو الكدح المتواصل لإطعام صغارهم وكسائهم كما يكدح الفقراء؛ وكانوا كغيرهم من الطبقات يلعبون الورق، والنرد، ويقضون الساعات في لعبة الشطرنج، ولكنهم قلما كانوا يتورطون في لعب الميسر حتى تخرب بيوتهم. وكان يطيب لهم أن يعزفوا على الآلات الموسيقية، ويغنوا ويرقصوا. وكانوا لضيق منازلهم أو مساكنهم يتنزهون ويقضون الوقت في الشوارع، وهي تكاد تخلو من الخيل والمركبات لأن وسيلة النقل المفضلة هي القنوات. ولهذا لم يكن من غير المألوف لدى الطبقات التي لا تميل كثيراً إلى السكون والجلوس أن تقيم في بعض الأمسيات في الأيام العادية أو في أيام الأعياد حفلات رقص وغناء في الميادين العامة لا تقتضيها شيئاً من سابق الاستعداد. وكانت لكل أسرة آلاتها الموسيقية وفيها أفراد يمكن الاستماع إلى أصواتهم؛ وكانوا شديدي التأثر بالغناء، وشاهد ذلك أنه لما أن تزعم أدريان ولارت Adrian Willaert جماعتي المرنمين في كنيسة القديس مرقس، واستمع الآلاف الذين استطاعوا دخول الكنيسة إلى هذه الترانيم، قلبوا شعارهم الشهير الذي كانوا يفخرون به وأصبحوا وقتاً ما مسيحيين أولاً وبنادقة فيما بعد.
وكانت حفلات البندقية أعظم الحفلات الأوربية فخامة، وذلك لما كان يحيطها من الكنائس، والقصور، والبحر؛ وكانت كل مناسبة يتذرع بها لإقامة الحفلات أو المواكب الفخمة كتتويج الدوج، أو عيد ديني، أو يوم عطلة قومية، أو زيارة كبير أجنبي، أو يوقع صلح مرضي، والجارنيجليو