للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأبدي في نفسه إذا كان غارقاً في الظواهر وفي الجزئيات، فقبل أن يحس الإنسان هذه الحقيقة الباطنية، ينبغي له أولاً أن يطهر نفسه تطهيراً تاماً من أدران العمل والتفكير، ومن كل ما يضطرب به الجسد والروح (١٠٧)، يجب أن يصوم الإنسان أربعة عشر يوماً، لا يشرب إلا الماء (١٠٨)، وعندئذ يتضور العقل جوعاً- إذا صح هذا التعبير- فيخلد إلى سكينة وهدوء، وتتطهر الحواس وتسكن، وكذلك تهدأ الروح هدوءاً يمكنها من الشعور بنفسها وبهذا المحيط الخصم من الأرواح، التي ليست هي إلا جزءاً منه، وبعدئذ لا يعود الفرد موجوداً باعتباره فرداً، ويظهر "الاتحاد وتظهر الحقيقة الذاتية" لأن الرائي لا يرى في هذه الرؤية الداخلية النفس الفردية الجزئية، فتلك النفس الجزئية إن هي إلا سلسلة من حالات مخية أو عقلية، إن هي إلا الجسم منظوراً من الداخل، إنما يبحث الباحث عن "أتمان" (١) نفس النفوس كلها، وروح الأرواح كلها، والمطلق الذي لا مادة له ولا صورة، والذي ننغمس فيه بأنفسنا جميعاً إذا نسينا أنفسنا كل النسيان.

تلك إذن هي الخطوة الأولى في "المذهب السري": وهي أن جوهر النفس فينا ليس هو الجسم، ولا هو العقل، ولا هو الذات الفردية، ولكنه الوجود العميق الصامت الذي لا صورة له، الكامن في دخيله أنفسنا، هو "أتمان"؛ وأما الخطوة الثانية فهي "براهمان" (٢) وهو جوهر العالم الواحد الشامل الذي لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى (٣) غير المشخص في صفاته، المحتوي لكل شيء


(١) اشتقاق هذه الكلمة موضع شك، فيظهر (من سفر رج القسم العاشر ص ١٦) أن معناها في الأصل نفس، ثم أصبح معناها الجوهري الحيوي، ثم أصبح الروح.
(٢) براهمان معناها هنا روح العالم غير المشخصة، ويجب تمييزها من لفظة براهما الذي هو أكثر منها تشخصاًً، وهو أحد الثالوث الإلهي (براهما وفشنو وشيفا) كما يجب تمييزها من لفظة "برهمي" التي تدل على العضو في طبقة الكهنة، ومع ذلك فليس التمييز بين اللفظتين الأوليتين بملحوظ دائماًً فقد تجد براهما بمعنى براهمان.
(٣) المفكرون الهنود أقل الفلاسفة الدينيين تأثراً بالشخصية البشرية في تصويرهم لله، فهم حتى في الأجزاء الأخيرة من سفر "رج" في الفيدا، يشيرون إلى الكائن الأعلى دون أن يذكروا له جنسا، فهم آناًً يجعلونه مذكراً عاقلاً وآناًً يشيرون إليه بضمير غير العاقل، ليدلوا بذلك على أنه فوق التفرقة الجنسية (الذكر والأنثى).