لم يرسل إليه ينبئه بوصوله. وتداولت الأيدي المخطوط، وكتبت منه عدة نسخ خلسة، ولم يطبع إلا في عام ١٥٣٢ بعد خمس سنين من موت المؤلف، وأصبح من ذلك الحين من أكثر ما يعاد طبعه من الكتب في أي لغة من اللغات.
وليس في مقدورنا أن نضيف إلى ما وصف به نفسه إلا صورة له لا يعرف مصورها محفوظة في معرض أفيزي. ويظهر فيها شخصا نحيل الجسم، شاحب الوجه، غائر الخدين، حاد العينين أسودهما، رقيق الشفتين مطبوقهما، تنم معارفه عن رجل تفكير أكثر مما هو رجل عمل، له من الذكاء الحاد أكثر مما له من الإرادة الطيبة والوداعة. ولم يكن في مقدوره أن يصبح دبلوماسياً صالحاً، لأنه لم يكن يسعه أن يخفي دهاءه، ولا أن يكون حاكماً قديراً لأنه كان مسرفاً في عنفه، يقبض على الأفكار بتعصب وعناد، كما يقبض في صورته على قفازيه اللذين يؤكدان مرتبته نصف الأرستقراطية، وهذا الرجل الذي كثيراً ما كتب كما يكتب الفيلسوف الكلبى، والذي كثيراً ما تنقلب شفتاه انقلاب الساخر المتهكم، والذي اعتاد الكذب حتى جعل الناس يظنونه يكذب حين يقول الحق (٧٧)، هذا الرجل كان في خبيئة نفسه وطنياً شديد الحماسة، يرى أن مصلحة الشعب هي القانون الأعلى، ويخضع كل القوانين الأخلاقية لغاية واحدة هي توحيد إيطاليا وإنقاذها مما تعانيه.
وكان يتصف بكثير من الصفات غير المحبوبة؛ منها أنه لما أقبلت الدنيا على بورجيا اتخذه مثلاً أعلى، ولما انصرفت عنه سار وراء الجماهير وندد "بالقيصر" الساقط ووصفه بأنه مجرم و "عاص للمسيح"(٧٨). ولما طرد آل ميديتشي لعنهم بأفصح عبارة، فلما عادوا إلى الحكم لعق أحذيتهم ملتمساً منهم منصباً. ولم يكن يزور المواخير قبل الزواج وبعده فحسب،