فحسب. بل كان يبحث في أسبابها ونتائجها، وأفاض على فوضى السياسة الفلورنسية تحليلا للمنازعات القائمة بين الأسر، والطبقات والمصالح يكشف عنها ووضحها. وقد جعل محور القصة موضوعين يوحدان بين أجزائها: أولهما أن البابوات قد أبقوا إيطاليا مشتتة منقسمة على نفسها لكي يحافظوا على استقلال البابوية في الشؤون الزمنية، وثانيهما أن ما حدث في إيطاليا من تقدم عظيم كان في عهد الأمراء أمثال ثيودريك، وكوزيمو، ولورندسو. ومما يدل على شجاعة المؤلف، وكرم البابا من الناحيتين العقلية والمالية أن يكتب كتاباً بهذه النزعة رجل يسعى للحصول على المال من البابا، وأن يرضى البابا كلمنت السابع بأن يهدى إليه الكتاب دون أن يشكو مما جاء فيه.
وشغل تاريخ فلورنس مكفلي خمس سنين، ولكنه لم يحقق ما كانت تتوق إليه نفسه وهو عودته إلى السباحة في مجرى الساسة الموحل. ولما أن خسر فرانسس الأول كل شيء عدا شرفه وحياته في بافيا (١٥٢٥)، وألفى كلمنت السابع نفسه عاجزا ضعيفا أمام شارل الخامس، بعث مكيفلي برسائل إلى البابا وإلى جوتشيارديني يوضح ما يستطاع عمله لصد الفتح الأسباني-الألماني الذي كان يتهدد إيطاليا؛ ولعل اقتراحه بأن يمد البابا جيوفني دلى باندى نيرى Giovanni della Bande Nere بالمال، والسلطان، والسلاح كان من شأنه أن يؤجل المصير المحتوم إلى حين. ولما مات جيوفني، وزحفت الجحافل الألمانية على فلورنس الحليفة الغنية لفرنسا والمجهزة لمن ينهبها، أسرع مكيفلي إلى المدينة، واستجاب إلى ما طلبه كلمنت فوضع تقريرا عن الطريقة التي يمكن بها إعادة أسوارها لجعلها صالحة للدفاع عنها. وفي الثامن عشر من مارس سنة ١٥٢٦ اختارته الحكومة الميديتشية ليرأس لجنة من خمسة "أمناء على الأسوار". ليقوموا بهذه المهمة. غير أن الألمان مروا بفلورنس واتجهوا إلى روما. ولما نهبت هذه المدينة، وأسر الغوغاء كلمنت، طرد الحزب الجمهوري في فلورنس آل ميديتشي مرة أخرى