النسك والزهد، وإنكار الذات، والإحساس بالخطيئة ما كان لها سلطان على الطبقات العليا من سكان إيطاليا، وكادت تفقد ما كان لها عندهم من معنى. فاضمحلت الأديرة لقلة من كان يدخلها من الرهبان الجدد؛ وكان الرهبان- والإخوان، والبابوات أنفسهم يسعون وراء ملذات الدنيا بدل تعاليم المسيح. وتراخت قيود التقاليد والسلطان، وكان صرح الكنيسة الضخم أخف على قلوب الناس وأغراضهم من ذي قبل. وأضحت الحياة أكثر اهتماماً بما هو في خارج الإنسان ومع هذه العضة كثيرا ما اتخذت شكل العنف، فإنها طهَّرت كثيراً من النفوس من المخاوف والاضطرابات العصبية اليت كانت تخيم على العقول في العصور الوسطى وتسبب لها الكآبة والظلمة. وأخذ العقل الطليق يمرح سعيداً في جميع الميادين عدا ميادين العلم، وذلك لأن ما ينشأ عن هذا الانطلاق وذاك التحرر من خصب قلما كان يتفق حتى ذلك الحين مع ما تتطلبه التجارب والبحوث العلمية من تهذيب نفسي وصبر طويل؛ فهذا التهذيب وذاك الصبر إنما يجيئان في الدور الإنشائي الذي يعقب التحرر. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد أفسحت أساليب التقى السبيل إلى عبادة العقل والعبقرية، واستبدل بالسعي وراء الشهرة الخالدة الاعتقاد، بألا ضرورة للتقيد بالمبادئ الأخلاقية وعَدَت المُثل الوثنية كالحظ، والأقدار، والطبيعة على فكرة الله المسيحية.
وكان لابد لهذا كله من ثمن. لقد قوض التحرر الساطع للعقل دعا القوة العليا السماوية المشرقة على الأخلاق، ولم توجد قوة أخرى لها ما لها من سلطان تحل محلها. وكانت النتيجة التحلل من جميع الموانع والقيود وإطلاق العنان للغرائز والشهوات، وانتشار الفساد، والاستمتاع المرح استمتاعاً لم يعرف التاريخ له مثيلا منذ أن حطم السوفسطائيون الأساطير وحرروا العقول، وأرخَوا قيود الأخلاق في بلاد اليونان القديمة.