ووضع الشيخ الطاعن في السن، بمساعدة ابنه دومينيكو وابنته ماريتا Marietta، في الاسكولا دلا ميزيربكورديا Scuola della Misericordia قطع القماش التي ستتألف منها الصورة الأخيرة. ورسمت كثير من الرسوم التخطيطية الأولية؛ منها رسم، يعد في حد ذاته آية فنية، يوجد الآن في متحف اللوفر. ولما وضعت هذه الأجزاء كلها في مكانها (١٥٩٠)، وبعد أن لون دومينيكو مواضع الاتصال بين الأجزاء وأخفاها، كانت الصورة أكبر صورة بالزيت وقعت عليها العين حتى ذلك الوقت- فقد كان طولها اثنتين وسبعين قدماً وارتفاعها ثلاثا وعشرين. وأجمعت الجماهير التي احتشدت لرؤيتها على أنها أعظم أعمال التصوير التي تمت في مدينة البندقية- وأنها "أعجب قطعة في العالم كله من الصور الزيتية النقية، السامية التي تمثل الرجولة الحقة"(٣٣). وعرض مجلس الشيوخ على نتورتو أجراً بلغ من الارتفاع حداً لم يسعه معه إلا أن يرد إليه جزءاً منه واستاء من ذلك زملاؤه الفنانون.
وعدا الزمان على هذه الجنة، واليوم إذا ما دخل الإنسان قاعة المجلس الكبير، والتفت إلى الجدار القائم خلف عرش الدوج، لم يجد الصورة التي تركها تنتورتو هناك، بل وجد صورة سودها الدخان والرطوبة اللذين تناوبا عليها مئات السنين، حتى لا يستطيع أن يتبين من الأشكال الخمسمائة التي كانت تملأها إلا أقلية صغرى واضحة للعين. أما فيما عدا هذا فدوائر داخل دوائر تهتز وترتجف- وتتكون من السذج المباركين، والعذارى، والمؤمنين بالدين، والشهداء، والمبشرين بالإنجيل، والحواريين، والملائكة، وكبار الملائكة- كلهم محتشدون حول مريم وابنها، كأن هؤلاء جميعاً قد أصبحوا هم الآلهة الحقيقيين للعالم المسيحي اللاتيني، وقد جاءوا يعترفون بجلال قدرة المرأة والرجل اعترافاً جديراً بهم. ويشعرنا تنتورتو بما وراء الأشكال المائة التي تستطيع أن تراها بالعين من مئات أخرى يخطئها الحصر.