بعداً عنا. وقل من الناس من إذا سُئل عن أمر قال لا أدري، فإذا واجهته ظاهرة له لا يعرف من قبل حقيقة أمرها عزاها إلى أسباب طبيعية أو خارقة للطبيعة وتصرف بما يتفق مع تعليله هذا أو ذاك، ولست تجد إلا قلة ضئيلة من العقول تستطيع أن تتريث في حكمها إذا وقفت أمام الشواهد المتناقضة، أما الكثرة الغالبة من بني الإنسان فتحس بأن لا بد لها أن تعزو ما ترى من الموجودات أو الحادثات إلى كائنات علوية لا تتقيد بالقوانين الطبيعية، ولقد كانت الأديان (الأولى) هي عبادة خوارق الطبيعة من الكائنات-باسترضائها، والتوسل إليها، أو تمجيدها. وما أكثر من يضجرون من الحياة ويألمون منها، فيطلبون العون من الكائنات الخارقة للطبيعة إذا لم يجدوا هذا العون في القوى الطبيعية، فتراهم يعتنقون وهم شاكرون مغتبطون أدياناً تبعث في حياتهم الكرامة والأمل، وتضفي على العالم نظاماً ومعنى لا وجود لهما بغير هذه الأديان، وإن من الصعب على نفوسهم أن تغض الطرف صابرة عما في الطبيعة من قسوة ووحشية تصيب الناس خبط عشواء، وما يحدث في تاريخ العالم من منازعات ومن إراقة للدماء، وما يصيبهم هم أنفسهم من محن وبلايا وحرمان إذا لم يؤمنوا بأن هذه كلها جزء من خطة إلهية مرسومة يعز عليهم فهمها وإدراك سرها. إن العالم إذا لم يكن له سبب أو مصير يعرف حقاً أشبه بسجن للعقول، فنحن نتوق إلى الاعتقاد بأن للمسرحية الكبرى منشئاً عادلاً وغاية سامية.
هذا إلى أننا نحرص على البقاء، ويصعب علينا أن نعتقد أن الطبيعة قد كدت وأجهدت نفسها حتى أوجدت الإنسان، والعقل، والحب والإخلاص لا لشيء إلا لتلقي بها ظهرياً متى نضجت وكما نماؤها. والعلم يهب الإنسان في كل يوم مزيداً من القدرة، ولكنه ينقص من شأنه على مر الأيام، فهو يرقى بآلاته وأدواته ولكنه لا يعنى بأهدافه وأغراضه، ولا يكشف له عن الأصول والقيم والأهداف النهائية، ولا يضفي على الحياة